الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب
.باب: التعريض بالخطبة: أحدهما: أنها زوجة، فلا يجوز للغير التعرض لها، تعريضاً ولا تصريحاً. والثاني: أنها تكون متغيرة حنقة على زوجها، فقد يحملها ذلك على خُلفٍ في ادعاء انقضاء العدّة. وأما المعتدة عن الطلاق المُبين، فقد ذكر أصحابنا في جواز التعريض وجهين مبنيَّين على المعنيين المذكورين في الرجعية؛ فإن قلنا: المعنى في الرجعية أنها زوجة، فهذا المعنى مفقود في الثانية، فيجوز التعريض بخطبتها، وإن قلنا: المعنى في الرجعية أنها حنقة متغيظة، فهذا المعنى يتحقق في الثانية؛ فيحرم التعريض معها. وهذه مراسم يذكرها الأصحاب في ضبط المسائل، وإلا فالغرض أن الرجعية لا يجوز التعريض بخطبتها؛ لأنها زوجة، وهذا المعنى كافٍ مستقل لا حاجة معه إلى آخر، والثانية فيها تردد. والوجه: توجيه الوجهين فيها بقياسها في أحدهما على المعتدة عدة الوفاة. والفرق بينها وبين المتوفى عنها في الوجه الثاني بما أشرنا إليه؛ فإن المتوفى عنها لا تكون حنقة على زوجها، وعدتها أيضاًً بالأشهر والأيام وتاريخ الموت لا يخفى، فلا يفرض في عدتها لبس إلا على بُعد. ثم صفة التعريض: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس: "إذا حللت فآذنيني" أي إذا انقضت عدتك، فظنت أنه يريد أن ينكحها. ومِن صيغ التعريض أن يقول: "ربّ طالب لك" أو "رُبَّ راغب فيك" أو "من يجد مثلك؟". والمرأة تجيبه تعريضاً إن أرادت، فتقول: "لستَ بمرغوب عنك" أو ما في معناه. والصريح أن يقول: أريد أن أنكحك. والتصريح بالخطبة ليس مكروهاً، ولكنه محرّم باتفاق من الأصحاب. ثم يجوز التعريض سراً وعلانية، وقال داود: لا يجوز سراً لقوله تعالى: {وَلَكِن لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] قال الشافعي: معناه: لا تذكروا صريح اسم الجماع، والسر من الأسماء المشتركة، ومن معانيه الجماع نفسه؛ أورده ابن السكيت في الإصلاح، وهو مشهور عند أهل اللسان. .باب: النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه: 8085- الخطبة والسَّوْم قد يتفقان وقد يختلفان: فاتفاقهما في أن الرجل إذا خطب امرأة، فأجابت؛ حرم على الغير خطبتها، وكذلك إذا ساوم رجلاً سلعة بمبلغ من الثمن، وأجابه، حرم على الغير السوم على سومه. هذا إذا طلب المشتري، فأجيب. ومن هذا القبيل: أن يعرض الرجل سلعته على إنسان بمبلغ من الثمن، ويتوافقا على المقدار، فإذا دخل آخر وعلم ما جرى، فعرض سلعة أخرى بمثل ذلك الثمن، أو بأقلّ، فقد يرغب المشتري في السلعة الثانية، فيكون ذلك إفساداً لمقصود الأول، فيحرم ذلك، ويندرج كل هذا تحت النهي عن السوم على السوم. وقد يختلف البابان لاختلاف الصور. فإذا صادف الرجل سِلعة بيد من يريد بيعها، فإذا طلبها مستام، فقد يزيد غيرُه، فيعلم أنه على المزايدة فلا يمنع ولا يتصور مثل هذه الصورة في الأبضاع. ولو طلب الرجل سلعة مستاماً فرضي مالكها، ثم إن المشتري فارقه لا عن عِدَةٍ، فقد قال أصحابنا: للغير أن يستام في هذه الصورة، لأن مفارقته دليل على أنه أعرض عن طلبه، ولو استمر عليه، لواعد صاحبَه، وأوصاه بألا يبيعه. وإذا خطب الرجل امرأة، فأجيب وأُسعف، فسكت وانصرف إلى منزله، فليس للغير أن يخطب على خطبته. وكل واحد من البابين مُقَرٌّ على العادة المعتادة فيه؛ فإن من يُسعَف بالخطبة فقد يستأخر اليوم واليومين، ولا يعدّ ذلك إعراضاً، ثم إن طال انقطاعه-بحيث يعد ذلك إعراضاً- فحينئذ نحكم ببطلان الخطبة الأولى، ويجوز للغير أن يخطب. ولو خطب امرأة فرُدّ، فللغير أن يخطبها. ولو خطب امرأة ولا يُدرى أنه أجيب أو رُدّ، فللغير أن يخطبها؛ فإنه إذا لم يتبين أنه أجيب أو قطعت الخطبة، لما ازدحم الخطّاب على المرأة، والدليل على ذلك من جهة الخبر ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس- وهي معتدة "إذا حللت فآذنيني"، قالت: فلما حللتُ أخبرتُه، وقلت: إن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال: "أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة". قالت: فكرهت ذلك، ثم لم أجد بداً من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به". وإنما كرهت لأحد أمرين: إما لأنها كانت طمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن ينكحها، فلما لم يفعل، كرهت، أو لأن أسامة كان ابن مولى، ولم يكن من قريش، وإنما هو من بني كلب. وفي حديث زيد بن حارثة دليل على جواز استرقاق العربي. وهذا الحديث يتعلق به فوائد: منها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرّض بالخطبة وهي في العدة، لما قال "إذا حللت فآذنيني"، ثم صرح بعد انقضاء العدة، فدل ذلك على جواز التصريح بعد العدة، وجواز التعريض في العدة. ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطبة معاوية وأبي جهم، فاتجه أن يحمل هذا على أنه لم يعلم ما كان منهما، أو علم خطبتهما وعلم ترددهما، وهذا يفيد أصلاً في الباب، وهو: أن المرأة إذا كانت متوقفة في إجابة من خطبها، فلا يحرم على الغير خطبتها، وما كانت ردت الرجلين؛ فإنها لو ردتهما، لما ذكرتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويبتني على ذلك أن الثيب المستقلة إذا خُطبت، فأجابت؛ لم يكن للغير أن يخطُبها على الخِطبة الأولى. وإن ردّت، فللغير الخِطبة. وإن سكتت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فقال الصيدلاني: في المسألة قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه في الجديد- أن خِطبتها لا تحرم لذلك؛ فلا تعويل على سكوتها المتردد بين الرد والقبول، وحديث فاطمة دالّ على ذلك؛ فإن الظاهر أنها ما ردّت وما أسعفت. قال: والمنصوص عليه في القديم: أنها إذا سكتت، تحرم الخِطبة على الغير، وهذا يعتضد بالعادة في الباب؛ فإن الغالب أن المرأة إذا خُطبت، لم تبادر بالإسعاف، وإنما تسكت، ثم تُراجَع مرة أخرى، أو مراراً. 8086- ثم الاعتبار في الرد والإجابة بمن العقد إليه على سبيل الإجبار، أو بالمرأة- إن كانت مستأذَنة، وكان النكاح يفتقر إلى إذنها؟ وبيان ذلك أن أَبَ البكر لما كان مُجبِراً، فالمخاطَب بالخِطبة هو، ثم العبرة به في الرد والإجابة والسكوت، ولا أثر للمرأة في ذلك. وإن كانت ثيّباً؛ فهي المخطوبة، وإن كانت لا تتولَّى العقد، من جهة أنها الأصل. وإذا رضيت بكفءٍ طلبها، حصل غرضها، فإن ساعدها الولي، فهو المراد، وإن خالفها، توصلت إلى غرضها من جهة القاضي، وكان الولي عاضلاً. 8087- ثم حاصل المذهب أن من يُعتبر-على ما ذكرناه- إن صرح بالرد، فللغير أن يخطب. وإن صرح بالقبول، حرمت الخطبة على الغير. وإن سكت: فوجهان، أو قولان. وإن لم يُدْرَ أخطبت أم لا؟ فليس على الذي يريد الخطبة أن يبحث؛ بل له الهجوم على الخطبة. وإن خُطبت، ولم يدر أن الخاطب أجيب أو رُدّ، فظاهر ما ذكره الصيدلاني أن الخطبة لا تحرم؛ فإنه استدل بحديث فاطمة، وهذه الحالة تتميز عما إذا فرض السكوت في مقابلة الخطبة؛ فإن ذلك محقق والحالة التي ذكرناها- فيه إذا جوّزنا الرد وجوّزنا غيره. فهذا منتهى التفصيل. 8088- فإن قيل: قد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد من خاطبَي فاطمة بعيب، فما الفرق بين هذا وبين الغِيبة؟ وفي الحديث «أن الغيبة: أن تذكر الإنسان بما فيه مما يكره ذكره، فإن ذكرته بما ليس فيه، فقد بهتّه». وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، فضحه، ولو في جوف رحله». فكيف سبيل الجمع بين هذه الأخبار؟ قلنا: إذا ذكرتَ ما في الإنسان لغرض صحيح- وهو أن يكون إلى ذلك حاجة، أو طلبتَ نصيحةَ مسلم لتحذِّره، أو أردت مخايرةً بين شخصين، فلك في هذه المواضع أن تذكر ما في الشخص، ولك أن تتعرض لأمثال هذا وأنت تنفذ وراء الأحاديث في ردٍّ أو ترجيح، ولا شك في ذلك وأنت تُجرِّح الشاهد. فخرج من ذلك: أن من ذكر في الإنسان ما هو فيه، وصدق، وكان لغرضٍ ممّا ذكرناه، فليس مغتاباً، وإنما المغتاب من يقصد أن يفضح إنساناً، أو يهتك ستره، أو يتعلل بذكر الناس تفكّهاً؛ فهذا محرّم. ويلتحق به من يتقرب إلى إنسان بذكر عدوّه بالسوء. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس». ثم قوله صلى الله عليه وسلم «لا يضع عصاه عن عاتقه» قيل: معناه: إنه سيء الخلق. يضرب أهله. وقيل: معناه: إنه كثير الأسفار. والعرب تقول: ألقى فلان عصاه- إذا أقام. ومنه قول القائل: فألقت عصاها واستقر بها النوى... كما قر عيناً بالإياب المسافر .باب: نكاح المشرك ومن يسلم وعنده أكثر من أربع: 8090- فنقول: إذا أسلمت الكافرة، وتخلّف زوجها؛ فلا شك أنها لا تُقر في حِبالة الكافر، ولكن إن كانت غير مدخول بها، انقطع النكاح بنفس إسلامها وتخلّفه، ثم إسلام الزوج بعد إسلامها لا يردها إلى النكاح. وإن جرى الاختلاف كما ذكرناه بعد تقيّد النكاح بالمسيس، فالأمر موقوف ما دامت في العدة، فإن أصر الزوج على تخلّفه حتى انقضت عدتها، تبيّنّا آخراً أن النكاح ارتفع بنفس إسلامها، والواقع بعده عدة، فإذا انقضت، فقد تعلَّت عن العدة وحلت للأزواج. وإن اتفق إسلام الزوج في مدة العدة قبل انقضائها؛ فالنكاح قائم بينهما، ونتبيّن أنه لم يرتفع بإسلامها وتخلفه عنها في المدة التي تخلف فيها. والقول فيها بمثابة القول فيه إذا ارتد أحد الزوجين-كما سيأتي ذلك في بابه- إن شاء الله تعالى. هذا مذهب الشافعي، فنكتفي به. ونحن لا نذكر الخلاف إلا في غرضٍ لنا، ولم نبن هذا المجموع إلا لبيان محض مذهب الشافعي وقياسه. هذا إذا أسلمت وتخلف، ثم كان من الأمر ما وصفناه. فإن أسلم الزوج وتخلفت، نظرنا؛ فإن كانت كتابية يجوز للمسلم ابتداء نكاحها، فالنكاح قائم بينهما، ولا أثر لإصرارها في قطع النكاح. وإن كانت مجوسية، أو وثنية؛ فلا سبيل إلى تقريرها في نكاح هذا الذي أسلم، لو أصرت، فيرجع الأمر إلى الفرق بين ما قيل المسيس وبعده- كما مضى في إسلامها وتخلفه. ولو أسلما معاً أُقِرّا على النكاح، كما سنصف ذلك، إن شاء الله عز وجل. فهذا أحد الأصلين. 8091- الأصل الثاني: أن الكافر إذا نكح عدداً في الشرك زائداً على الأربع، ثم أسلم وأسلمن، فيتعين عليه أن يختار أربعاً منهن. فإن كان نكحهن في الشرك في عقد واحد، ثم اجتمعوا إلى الإسلام، وجب عليه أن يختار منهن أربعاً، ولا معترض عليه إن كان نكحهن في عقود متفرقة ثم اجتمعوا في الإسلام، فهو كما لو نكحهن في عقد واحد، فيختار أربعاً منهن، فإن شاء اختار الأوائل، وإن شاء اختار الأواخر، ولا حكم لتواريخ العقود الماضية في الشرك، ولا أثر لتقدم ما يتقدم وتأخّر ما يتأخر. وإذا قلنا: هن كالمجموعات في عقد، كان ذلك نهاية البيان في أنه يختار من يشاء منهن، ويتعين اختيار أربع. فلو كان أسلم وأسلمن وهن أربع، فهن منكوحات ولا حاجة إلى الاختيار، وكذلك إذا كُنّ دون الأربع. وممَّا يتعيّن التصريح به-وإن اندرج تحت ما قدّمناه- أنه لو نكح أربعاً في عقدة، ثم نكح بعدهن أربعاً أُخر، وقد جرى كل واحد من العقدين على شرط الإسلام، فلو فرضنا مثل هذين العقدين في الإسلام، لقلنا: المنكوحات هُنّ الأوائل، والعقد باطل على المتأخرات، وإذا جرى مثل ذلك في الشرك، ثم اجتمعوا في الإسلام، فهو كما لو نكحن في عقد واحد. ويجب أن يتنبه الناظر لأمرٍ هاهنا، ويعتقده المذهبَ، وذلك أنه لو نكح عشراً في الشرك في عقد واحد، فهذا العقد فاسد على شرط الشرع، وإذا اتصلوا بالإسلام، فنكاح أربع منهن ثابتٌ على خلاف موجب العقود التي تنشأ في الإسلام، فلا نظر إلى ما جرى في الشرك، وإذا جرى عقد على أربع، فهذا على شرط الصحة في الإسلام، ثم لم تقع به مبالاة، ويخرج منه أنا نضرب عن صفات العقود إذا انعقدت في الشرك، ولا ننظر إلى ما يصح منها في شرط الشرع وإلى ما يفسد، بل نقول: إذا أسلم وأسلمن، فهن مجموعات، فليختر منهن عددَ الإسلام. ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده. قال أبو حنيفة: إن نكح أكثر من أربع في الشرك، وأسلم وأسلمن، وكان نكحهن في عقد واحد؛ فنكاحهن باطل؛ رداً إلى حكم الإسلام، ولا يختار منهن واحدة إلا أن يبتدىء نكاحها، ولو نكح أربعاً في عقد، ثم أربعاً، وأسلم وأسلمن، فيتعين عليه نكاح الأربع الأوائل على موجب الشرع. 8092- وما ذكرناه في العدد يجري في جمع الأختين وتفرقهما، فلو كان نكح في الشرك أختين، وأسلم وأسلمتا، فيتعين عليه أن يختار إحداهما. ولو نكح واحدة في عقد، ثم نكح أختها في عقد آخر، وأسلم معها، فيختار أيتهما شاء عندنا، كما لو كان نكحها في عقد واحد. وأبو حنيفة يقول: إن كان نكحهما في عقد واحد، وأسلم وأسلمتا، لم يختر واحدة في استدامة النكاح. ولو نكحهما ترتيباً، تعيّن عليه نكاح السابقة. والشافعي اعتمد الأخبار الصحيحة فيما صار إليه، فنتيمّن بذكرها، ثم نذكر غرضاً لنا بعدها. روي أن غَيْلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فأسلمن معه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعاً وفارق سائرهن» ولم يتعرض لجمعهن وتفريقهن في عقود الشرك. وأسلم الضحاك بن فيروز الديلمي وتحته أختان، فقال صلى الله عليه وسلم: «اختر أيهما شئت وفارق الأخرى». وأسلم نوفل بن معاوية، وعنده خمس، فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعاً وفارق الخامسة»، قال: فعمدت إلى أقدمهن صحبة، ففارقتها. هذا ما ذكره الشافعي من الأخبار. وروى الأثبات حديثاً آخر لم يذكره الشافعي، وهو أن الحارث بن عمر الأسلمي أسلم وتحته ثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعاً. وفارق أربعاً». فقال: فكنت أقول لمن أريد: تقدمي، ولمن لا أريد: تأخري، ولن تناشديني بالرحم والولد. فإذا ثبت متعلق المذهب؛ فإنا نقول بعد ذلك: لو رددنا إلى القياس، لم ينتظم مذهبنا على هذا النسق، وكان يتجه أن نقول: إن نكح أكثر من أربع في عقد، وأسلم وأسلمن؛ فلا يثبت نكاح واحدة منهن، وكان ينقدح في هذا وجهان من القياس: أحدهما: أن الإسلام إذا كان يدفع نكاح البعض-وإن قدّرنا الحكم بالإعراض قبلُ- فكان يجب أن يندفعن؛ إذ ليس بعضهن بالبقاء أولى من بعض، وطريان هذا يضاهي جمع أختين أو أكثر من أربعٍ في عقدة في الإسلام. ولو نكح الرجل رضيعتين، فأرضعتهما مرضع وثبتت الأخوة بينهما، يندفع نكاحهما جميعاً، ولا نقول: يندفع نكاح إحداهما وللزوج الخيار، ونجعل ما يطرأ من استحالة الجمع مع التساوي في الدوام بمثابة الجمع بين الأختين عقداً، هذا وجه من القياس بيّن. والوجه الثاني: أن أَولى العلماء بالحكم على الكفار بالإسلام الشافعي؛ فإنه يستتبعهم في موجب الشرع، ولا يتبع عقائدهم، وعليه بنى نفي الضمان عمن يريق خمراً على ذمي، ثم اقتضى المذهب إلحاق ما يصح على شرط الإسلام في الشرك بما يفسد على شرط الإسلام، كما تقدم شرحه. فتبين أن الشافعي لم يبن قواعده في الباب على قياس مذهبه في الأصول، ولكن صادف أخباراً صحيحة ونصوصاً صريحة لم يعتقد تطرق التأويل إليها، فترك القياس لها. وفي السواد ذكر مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن. وقد احتج الشافعي بالأخبار، واستاق احتجاجَه بها أحسنَ استياق، وقال: لما لم يسال النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن العقد، كان عفواً له لفَوْته، كما حكّم الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بعفو الربا إذا فات بقبضه. فقال محمد بن الحسن: ما علمتُ أحدا احتج بأحسنَ مما احتججت به، ولقد خالفتُ أصحابي فيه منذ زمان، وما ينبغي أن يدخل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم القياسُ. فبان من فحوى كلامهما تَرْكُ القياس واتباعُ الخبر، وأشعر كلام الشافعي مُضاهاة هذا الباب أبوابَ العفو والصفح تحقيقاً ورخصة، فهذا ما أردت التنبيهَ عليه في عقد الباب. 8093- ثم لا أثر عندنا في شيء مما ذكرناه لاختلاف الدار، فإذا أسلم أحد الزوجين، والدار جامعة لهما، أو اختلف بهما الدار، فالحكم لا يختلف عندنا. والذي عليه التعويل ما قدمناه من الفرق بين ما قبل المسيس وبعده، وأبو حنيفة يعتمد اختلاف الدار، ويجعله بمجرده قاطعاً للنكاح، ويقول: إذا تعلقت الكافرة بدار الكفر مصرة على كفرها، انقطع النكاح بينها وبين زوجها بنفس اختلاف الدار. وكذلك إذا تعلق الزوج بدار الإسلام وسكنها. فصل: قال الشافعي: "ولو أسلم ونكح أماً وابنتها... إلى آخره". 8094- هذا الفصل يستدعي تقديم أصول لا يستقل مقصود الفصل دونها، وهي أركان الباب؛ فالوجه أن نذكرها على نهاية البيان، ثم نعود إلى الفصل، ونُتبعه بعد نجازه مسائل الباب. 8095- الأصل الأول في بيان القول في أنكحتهم التي يرونها أنكحة في مللهم، وبيان إطلاق الصحة فيها والفساد، والإعراض، وهذا أم الباب، وقاعدة المسائل ومرجوعها، ولو رددنا إلى مقتضى الرأي فيها-وقد انتهى الحكم إلينا- لصحّحنا ما يقتضي الشرع تصحيحه، وحكمنا بفساد ما يوجب الشرع فساده، جرياً على ما تمهد من استتباع حقنا باطلَهم إذا اتصلت الوقائع بنا، ورُفعت إلينا، ولكن صدّنا عن هذا الأخبارُ التي صدّرنا الباب بها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خيّر من أسلم بين أختين، وهذا إن حُمل على جواز جريان الجمع بين الأختين في الشرك، فالجمع في الإسلام باطل، وإن حُمل على إيراد عقدين في أختين، فالتخيير بينهما يتضمن تصحيح اختيار الثانية لا محالة، والأخت الثانية المُدْخلَة على الأولى لا ينعقد نكاحها في الإسلام؛ فلم يمكنّا-والحالة هذه- أن نطرد استتباعهم ودعاءهم إلى ما يصح ويفسد في شرعنا؛ فينشأ من هذا تردد عظيم بين الأصحاب لا نعهد في مسائل الفقه مثلَه؛ حتى كاد كثير من الأصحاب يرتبكون في عماية، ويَنفون ويُثبتون من غير دراية، ولا نجد بداً فيه من النقل والحكاية؛ فإن المجموعات مشحونة بطرق فاسدة، ولن يتبين وجهَ الصحة من لم يطلع على مسالك الفساد. 8096- وقال قائلون: اختلف المذهب في أنا هل نحكم بصحة أنكحتهم؟ فذهب بعض الأصحاب إلى أنا نحكم بصحتها، ثم إن اتصلت بالإسلام-وكانت في دوامها موافقة- فإنا نقررهم عليها، وإن جرت في الشرك على خلاف شرط الشرع، إذا لم يلحق بها في الإسلام أسباب الفساد، كما سيأتي تفصيل هذا الفن على أثر هذا الفصل. وإن كانت في الدوام لا توافق الشرع لأمر يؤول إلى العدد والجمع- مثل أن يسلم الكافر على عشر، أو على أختين، فنقول: قد صحت الأنكحة على العشر والأختين في الشرك، ثم الإسلام يدفع إحدى الأختين والنسوة الزائدات على الأربع؛ فيقع ارتفاع نكاح المدفوعات بالإسلام على الإبهام، وخيرة التعيين إلى الزوج، وهذا هو الذي رآه الأصحاب ظاهرَ المذهب. ومن آثار هذا أن الزوج يلتزم مهور اللواتي يدفع الإسلامُ نكاحَهن، وهذا دالٌّ على ثبوت نكاحهن، وترتب الارتفاع على الثبوت، ولسنا نستقصي الآن المهر والقول فيه، وإنما نذكر أطرافاً من آثار الأصول إيناساً بها وتوطئة لها، هذا ما رآه الأصحاب المذهب الظاهر. ومن أصحابنا من قال: نحكم بفساد الأنكحة في الشرك، وهذا ساقط خارج عن قاعدة المذهب. 8097- وفرّع كثير من المعتبرين على تقدير التردد في الصحة والفساد أمرَ الطلاق، حتى قالوا: إذا نكح الكافر كافرة في الشرك، ثم طلقها، فوقوع الطلاق يخرّج على الصحة والفساد: فإن حكمنا بصحة نكاحهن، نحكم بنفوذ الطلاق، حتى إذا طلق امرأته ثلاثاً ثم أسلم، حكمنا بأنها محرمة عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وإن حكمنا بفساد أنكحتهم؛ فطلاقهم غير نافذ؛ فلو طلق الواحد منهم امرأته، واتصل الأمر بالإسلام؛ فالطلاق المقدم لغو، لا التفات إليه. وقد أورد هذا الخلاف بعض المصنفين، وذكره شيخي رضي الله عنه، وهذا على غاية من الفساد، لا يستريب فيه ذو عقل، والمصير إلى أن طلاق المشرك لا يقع في حكم المناكرة للحقائق. وقد عُزي هذا المذهب إلى مالك رضي الله عنه. ومما يُفسد هذا قطعاً: أن من أسلم على امرأة كان نكحها، ولم يتصل بالإسلام مفسد، فهو مُقَر على نكاحها، والتقرير على الفاسد محال، وانقلاب الفاسد صحيحاً محال، ولا يتصور أن يجاب عن هذا مع إطلاق القول بفساد أنكحتهم. وقد قطع الشافعي رضي الله عنه بأن المسلم إذا طلق ذمية ثلاثاً، فنكحها كافر، ودخل بها وأبانها؛ حلّت للأول؛ فله أن ينكحها إذا خلت عن العدة، والمذهب الذي عليه التعويل: أن التحليل لا يحصل إلا بالوطء في نكاح صحيح. وقد قطع الشافعي رضي الله عنه بأن الكافر الحر العاقل البالغ إذا كان وطىء في نكاح الشرك، ثم زنى، ورضي بحكمنا؛ فإنا نرجمه، وحديث اليهوديين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجمهما لما اعترفا بالزنا، ينافي ذلك، فبطل المصير إلى الحكم بفساد أنكحتهم. 8098- ومن تمام القول في هذا: أنا في قاعدة الباب لا نفرق بين عقد جرى في الشرك على شرط الشرع، وبين عقد جرى مخالفاً لشرط الشرع. وآية ذلك أن من نكح امرأة بولي وشهود، ثم نكح بعد ذلك أختها، فالنكاح الأول صحيح على شرط الشرع، ولا مزية للنكاح الأول على النكاح الثاني إذا اتصل النكاحان بالإسلام، وإذا كان كذلك؛ فمن حكم بفساد أنكحتهم يلزمه ألا يفصل بين ما يقع منهما على شرط الشرع وبين ما يخالف الشرع، والمصير إلى أن نكاحاً يعقدونه على شرط الشرائع كلها فاسد، مذهب لا يعتقده ذو تحصيل، وما الذي يمنع من صحة نكاحهم؟ ولا خلاف في صحة بيعهم وتصرفاتهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وُلدت عن نكاح، لا عن سفاح». وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان النكاح في الجاهلية على أنحاء، ونكاح واحد منها بولي وشهود". ولما تبين فساد هذا الوجه للمحققين؛ قال قائلون منهم: لا نطلق الفساد على أنكحتهم، ولا نحكم فيها بصحة ولا فساد. وهذا أقرب قليلاً من إطلاق الفساد، ولكن ليس فيه شفاء وبيانٌ كاف. 8099- وإذا أردنا أن نذكر التحقيق بعد انتجاز النقل، فالرأي عندنا أن نذكر مسألة لابن الحداد- وهي مقصودة في نفسها وبها يبين تحقيق المراد. قال ابن الحداد: إذا نكح الرجل أختين، وطلق كل واحدة منهما في الشرك ثلاثاً ثلاثاً، ثم أسلم وأسلمتا. قال: يخير بينهما، ويقال له: اختر إحداهما، كما كنت تختار لو لم يسبق منك طلاق أصلاً، فإذا اختار واحدة منهما، فالتي اختارها يثبت نكاحها. ثم إذا ثبت نكاحها بَعُدَ الطلاق فيها، والأخرى قد تعينت للفراق بحق الإسلام؛ فلا ينفذ فيها الطلاق. وفائدة ذلك أنه لو أراد أن ينكح التي لم يخترها من غير أن تنكح زوجاً غيره، صح. قال الشيخ أبو علي: هذا الذي ذكره ابن الحداد حقه أن يفرع على أنا هل نحكم لأنكحة الشرك بالصحة أم لا؟ فإن قلنا: نحكم بصحة أنكحتهم، فنقول على موجب ذلك: صح النكاح في الشرك على الأختين، وإن كان على مخالفة الشرع في العقود التي نقيمها في الإسلام، وإذا حكمنا بصحة النكاح؛ فإنا نحكم بوقوع الطلاق على الأختين جميعاً. وموجب ذلك أنه إذا أسلم معهما، فهما محرمتان، فلا معنى للتخيير والاختيار. والوجه أن نقول: من نكحت منهما وحللها زوجها، جاز للمطلِّق نكاحها. ولو نكحتا جميعاً، فهما بمثابة أختين أجنبيتين، وهذا الذي أسلم ينكح من شاء منهما. هذا إذا حكمنا بصحة النكاحين. وإن لم نحكم بصحة أنكحتهم على الإطلاق، فلا سبيل إلى الحكم بفساد أنكحتهم؛ فإن ذلك يبطل بالطرق التي قدمناها. ولكن نقول إذا أسلم وأسلمتا في مسألة ابن الحداد: لو لم يكن طلاق، لكان يختار إحداهما، فإذا اختار، تبين أن النكاح في الشرك كان صح على هذه التي وقع الاختيار عليها، ولسنا نتعرض قبل الاتصال بالإسلام لصحة ولا فساد. فإذا اتصل الأمر بالإسلام، فالحكم ما ذكرناه. ثم يصار مع الإسلام إلى أن الجمع بين الأختين في حكم شيء فاسد لا يصح النكاح معه في الإسلام، كالنكاح في العدة أو بشرط الخيار، كما سيأتي ذلك في المسائل. وقد تمهد لنا أن تفاصيل تعبدات الشرع غير مرعية في عقودهم، ولهذا لاتنقض عقود الربا إذا تبايعوا فيها، ثم أسلموا، فيبقى الإبهام بين الأختين، وإزالته محال في الشرع على اختيار الزوج، وهذا لم نقله عن رأي، وإنما اتبعنا فيه الأخبار، فانتظم من ذلك أن من نكح في الشرك امرأة ثم طلقها فطلاقه نافذ؛ فإنا لا نستجيز إطلاق القول بفساد أنكحتهم على هذا المسلك. وإذا نكح أختين، فطلقهما-كما فرضه ابن الحداد- فالطلاق يقع على المنكوحة منهما. وقد تبيّنا أن المنكوحة واحدة؛ فيكون وقوع الطلاق على هذا القياس. وينتظم جواب ابن الحداد فيما ذكره. هذا منتهى كلام الشيخ أبي علي. ولا خروج بجواب ابن الحداد إلا على التفصيل الذي ذكره. وقد نقل المزني في مسألة نكاح الأم والبنت قولاً لا خروج له إلا على بُعد في المسلك. ويخرج من مجموع ما ذكرناه مذهبان: أحدهما: الحكم بصحة عقودهم على الأخوات، ثم الإسلام يدفع ما يدفع. وكذلك القول في النسوة الزائدات، ثم الإسلام يدفع اللواتي زدن على أربع، و على رأي ابن الحداد نُعرض عن عقودهم، فإذا اتصلت بالإسلام، فالذي ينفيه الإسلام نقول: لم يصح أولاً، والذي يثبته الإسلام نقول فيه: تبينا صحته. فأما الحكم بفساد عقودهم... وذكر، فهو على القطع باطل والمصير إلى أن طلاقهم لا يقع عديم الوجه بالكلية؛ فإنا إذا كنا نحكم بصحة نكاحهم في الإسلام استدامة وتقريراً عليه، فالطلاق أولى بالنفوذ من النكاح. وان لغا طلاقهم، فليلغ نكاحهم. 8100- ثم يبقى وراء ما ذكرناه إشكالان: أحدهما- أن ابن الحداد قال فيمن نكح أختين وأسلم معهما: إذا اختار واحدة منهما، فتعينت الثانية للفراق، وذلك قبل المسيس، فللتي فارقها نصف المهر، واعتل بأن الفراق فيها حصل باختيار الزوج، وكان هذا بمثابة ما لو طلّق امرأته قبل الدخول. وهذا الذي ذكره يناقض الأصل الذي مهدناه بجوابه في مسألة الأختين وطلاقهما؛ فإنا خرّجنا ذاك على أن النكاح تتبين صحته في إحداهما، ونتبين أنه لم يصح في الأخرى، وإذا كان كذلك؛ فإذا اختار الزوج إحدى الأختين، فإيجاب نصف المهر للثانية مع الحكم بأن النكاح في حقه غير منعقد محال. وهذا لا جواب عنه. والأشكال الثاني- أنا إذا حكمنا بصحة النكاح في الأختين، وقضينا بأن الإسلام يدفع نكاح إحداهما بعد ثبوته على الصحة، فيستقيم على هذا إيجاب نصف المهر للتي فارقها الزوج؛ فإن الفراق يضاف إلى الزوج إذا كان السبب صادراً منه ومن الزوجة. وهذا بمثابة الخلع إذا جرى قبل المسيس. وسيأتي شرح القول في المهر من بعدُ، إن شاء الله عز وجل. ومحل الإشكال أنا إذا حكمنا بصحة النكاح على الأختين؛ فلو جاء كافر وتحته أختان، وطلب منا أن نفرض لهما النفقة، فماذا نصنع ونحن نحكم بصحة النكاح عليهما! وإنما يندفع النكاح في إحداهما عند الاتصال بالإسلام؟ هذا فيه تردد ظاهر؛ من جهة أن الفرض للأختين إنشاء حكم منا يخالف حكم الإسلام. فالذي أرى القطع به: أنه لا نفرض لهما النفقة، والدليل عليه أنا لو فرضنا لهما، للزم قاضينا أن يزوج أختين من كافر بحكم الولاية، وهذا لا يجترىء عليه من يتوفر الفقه في صدره. فكأنا-وإن حكمنا بالصحة- نَكِلُ الأمرَ إليهم ولا ننشىء فيهم شأناً، هذا ما نراه. ولمن ينظر في هذا الكتاب فضل الرأي بعدنا. وقد نجز قدر غرضنا الآن من القول في عقودهم، وحُكمنا بصحتها وفسادها. 8101- الأصل الثاني-وهو أيضاًً من أقطاب الباب- قال الأصحاب: إذا جرى نكاح في الشرك، واقترن به ما يفسد النكاح في الإسلام، ثم اتصل النكاح بالإسلام، وقد انقضى المُفسد؛ فإنا نقرر ذلك النكاح. وبيانه: أن من نكح معتدة في الشرك، ثم انقضت العدة، وأسلم وأسلمت، فهو مُقر على النكاح، وذلك المقترن بالعقد لا حكم له. وأبو حنيفة-وإن خالف في جمع الأختين وجمع أكثر من أربع- لم يخالف فيما ذكرناه. وكذلك إذا جرى النكاح على شرط الخيار، ثم انقضى الخيار، وأسلم الزوجان؛ فهما مقران على النكاح. ولو جرى النكاح من غير حضور شاهدين، وكانوا يرون صحة النكاح من غير شهود، فإذا أسلم الزوجان أُقرا على النكاح. والجامع لغرض هذا الفصل أنا لا نؤاخذ الكفار بتفاصيل التعبدات المرعية في عقودنا، وإذا عقدوا أنكحتهم على مفسد، ثم انقضى قبل الإسلام، فلا حكم لتيك الأشياء المقترنة بالعقد. ولو اقترن بالعقد مفسد، ثم أسلم الزوجان والمفسد قائم بعدُ، مثل أن يجري النكاح في العدة، أو بشرط الخيار، ثم يسلم الزوجان وبقية العدة ثابتة بعدُ؛ فنحكم بفساد النكاح؛ فإنا لو صححناه، لكان ذلك إنشاء حكم منا بالنكاح في العدة، فلا سبيل إليه، فإذا انقضت في الشرك ولم يصادفها الإسلام، فلا مؤاخذة بما مضى، ولا يُتبع أصلاً. وهذا الذي ذكرناه في العدة مستقيم. وأما بقاء مدة الخيار؛ ففيه نظر عندنا؛ من جهة أن الخيار أمر يقدّر ثبوته، فإذا كان فاسداً شرعاً، أمكن أن يقال: إنه غير ثابت؛ فإن الفاسد هو المنتفي، والمنتفي شرعاً لا ثبات له، فلا يبقى إلا شرط الخيار. وهذا هو الذي اقترن بالنكاح، وهو متقدم على الإسلام، فينتقض قبل حدوث الإسلام. وهذا الفقه يرد على أبي حنيفة في مسألة اشتراط الخيار في اليوم الرابع؛ فإنهم قالوا: إن لم يحذف الخيار الزائد، أفسد العقد، وإن حذف لم يفسد. فقيل لهم: الخيار الزائد فاسد محذوف شرعاً، فلا ينبغي أن يكون بخوفهم اعتبار. هذا احتمال ما ذكرناه. والذي قطع به الأئمة في الطرق: أن اتصال بقية من زمان الخيار بالإسلام بمثابة اتصال بقية من العدّة. ووجه ما ذكره الأصحاب-ولا مذهب غيره- أن النكاح لم ينعقد على صفة اللزوم في هذه الأيام؛ فلا يثبت اللزوم فيها؛ فإن المتعاقدين لم ينشئاه. ونحن وإن كنا لا نرعى شرائط الإسلام في ابتداء عقود أهل الشرك، فلا نثبت ما لم يثبتوه، وإذا عقدوا الإلزام وراء هذه المدة، لم يثبت قبل انقضائها. فهذا يقتضي أن يقال: إذا اتصل زمان الخيار بالإسلام؛ فلا إلزام في تلك المدة. وحكم الإسلام يقتضي مثل هذا، وهذا هو الممكن عندنا في تعليل هذه الطرق. وإذا تبين أن اتصال بقية العدة بالإسلام يتضمن الحكم بفساد النكاح، فلا يخفى أن الكافر إذا نكح واحدة من محارمه، ثم أسلما، فالنكاح مردود؛ فإن إدامة النكاح على المحارم يستحيل استحالة ابتدائه عليهن. وإذا كان يفسد النكاح ببقاء بقية من المفسد، فاستمرار المحرمية باقتضاء الإفساد أولى. 8102- ثم أطلق أئمتنا عبارة، ونشأ من إطلاقها كلام، وذلك بأنهم قالوا: إذا أدرك الإسلام والمرأة على حالة لا يجوز ابتداء نكاحها، فلا يجوز استدامة النكاح عليها، وإن كانت المرأة عند إدراك الإسلام على حالة لا يمتنع ابتداء نكاحها، فلا يبعد استدامة نكاح الشركِ عليها، وخرّجوا على مقتضى هذه العبارة استحالة إدامة النكاح على المحارم. وخرّجوا أيضاً امتناع دوام النكاح على التي هي في بقية من العدة، إذا لحق الإسلام. واستثنى صاحب التقريب من طرد هذا الكلام مسألتين: إحداهما- أن الكافر لو أسلم، وكما أسلم أحرم، ثم أسلمت المرأة قبل انقضاء العدة، والزوج محرم حالة الاجتماع في الإسلام، قال: إنه يمسك زوجته، وإن كان لا يبتدىء على هذه الحالة نكاحها، وكذلك لو أسلمت وأحرمت، ثم أسلم الزوج في العدة وصادفها محرمة؛ فإنه يقر على نكاحها. وإن كان لا يثبت نكاح المُحرمة ابتداء. فهذا أحد الاستثنائين. والثاني: أن الكافر لو نكح في الشرك، ثم إن المرأة وُطئت بشبهة بعد جريان النكاح، وجرت في العدة، فلحق الإسلام النكاح والمرأة في عدة الشبهة، فالنكاح قائم، لا يدفعه ما بقي من عدة الشبهة، وإن كانت لا تنكح ابتداء. هذا ما ذكره صاحب التقريب وقد قطع بموافقته الصيدلاني، ولم يشبّب بخلاف، ووجه ذلك بيّن؛ فإن الإحرام الطارىء عارض بعد تصرّم النكاح، وليس من المفسدات المقترنة بالعقد. وطريان الإحرام وعدة الشبهة لا يقدح في نكاح المسلمين، فكيف يفرض قادحاً في نكاح المشرك؟ ونحن قد نحتمل في أنكحتهم ما لا نحتمل في أنكحة الإسلام. فإذا كان لا ينافي الإحرامُ وعدةُ الشبهة دوامَ نكاح الإسلام، فكذلك وجب ألا يقطع دوامَ نكاح المشرك، وليس ذلك كما لو نكحت المعتدة وبقيت من العدة مدة، وقد لحق الإسلام؛ فإن هذه العدة اقترنت بالعقد واقترانها يفسد نكاح الإسلام، فإذا لحق الإسلام والمفسد قائم، جعلنا هذا كما لو أنشأ العقد مقترناً بالمفسد في الإسلام. وهذا المعنى الذي وقع به الفرق صحيح. 8103- ولكن يعترض عليه أصلٌ في الباب، اتفق الأصحاب عليه، وهو: أن الحر إذا نكح أمة على شرط الشرع، ثم طرأ على النكاح يساره واقتدارُه على طَوْل الحرة، وأسلم وأسلمت الأمة، فيبطل نكاح الأمة، ولا سبيل للحر إلى إمساكها، واليسار طارىء بعد النكاح، ولم يقترن بالعقد اقتران المفسدات به، فكان يجب أن يجعل طريان اليسار بمثابة طريان عدة الشبهة والإحرام. ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فصلاً، وارتكب طرد القياس في المسألتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى فيهما نصَّ الشافعي وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً. وأنه قال: إذا أحرم الزوج بعد ما أسلم، ثم أسلمت الزوجة الوثنية والزوج محرم، فينقطع النكاح، ونحكم بفساده، وطرد هذا في طريان عدة الشبهة على كلام ذكره بعض النقلة عنه فيها، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. هذا مما حكاه أصحاب القاضي عن القفال على هذا النسق، وأورده بعض المصنفين عنه على هذا الوجه، ولم يورده الصيدلاني في طريقه المقصور على مذهب القفال ومسلكه فيه، بل أورد عنه ضد ما أوردناه، والذي أشار إليه من كلامه في العدة عريّ عن التحصيل. ولكنا نأتي به. قال من نقل عن القفال: ما ذكرناه من طرد القياس في عدة الشبهة في زمن العدة تلبيس؛ من جهة أن أحد الزوجين إذا أسلم، اقتضى ذلك الجريان في عدة النكاح، وعدة النكاح مقدمة على عدة الشبهة، فلا يتصور اقتران عدة الشبهة بلحوق الإسلام. وهذا عندي كلام مضطرب؛ إذ يمكن فرض إسلامهما معاً، حتى لا يقدر جريانها في العدة بسبب اختلاف الدين. ثم يلتزم أن تقترن عدة الشبهة بهذه الحالة أيضاًً؛ فإنه إذا أسلم أحد الزوجين، فلسنا نقطع بأن المرأة جارية في العدة؛ من قِبل أن المتخلف منهما إذا وافق وأسلم قبل زمان انقضاء العدة، فنحكم بأن النكاح قائم دائم، وأن ما كنا نقدر عدة ليس عدة؛ فإن العدة عن الشخص يستحيل ثبوتها في صلب النكاح من غير وقوع سبب لا يستدرك، وليس كعدة الرجعية؛ فإنها تعقبت الطلاق الواقع، والرجعية وإن ارتجعها زوجها، فالطلاق الذي وقع عليها لا يزول. وذكر بعض المصنفين على قياس القفال: أن المرأة لو وطئت بالشبهة، وعلقت بمولود من الواطىء بالشبهة، واتصل الإسلام وبقي كذلك؛ فينقطع النكاح من قِبل أن عدة الشبهة في هذه الصورة تتقدم على عدة النكاح. فلا جرم يطرد القفالُ قياسَه. 8104- ثم حكى القفال عن نص الشافعي مسألة توافق القانون، وهي: أن الشافعي قال: إذا أسلم أحد الزوجين، وارتدّ، فالأمر على ما ذكرناه. وقال القفال: الردة تمنع النكاح كما تمنعه العدة والإحرام، فإذا انقطع دوام النكاح بطريان الردة بعد الإسلام؛ فليكن الإحرام والعدة عن وطء الشبهة بهذه المثابة. هذا تمام الحكاية عن القفال. وكان شيخي يحكي عن القفال ما ذكرناه أيضاًً، وإنما رابني ترك الصيدلاني هذه الحكاية، ونقلُه عن القفال نقيضَها، مع شدة اعتنائه بنقل خواص القفال. ولا شك أن القياس يخالف ما نقله الناقلون عن القفال، لما تقدم ذكره من أن طارىء الإحرام وعدة الشبهة لا ينافي دوام النكاح، وليسا مقترنين بالعقد الذي جرى في الشرك. والذي أوردناه من طريان اليسار في نكاح الأمة مشكل جداً، واردٌ على الفقه الذي اعتمدناه؛ من أن الإحرام وعدة الشبهة طرآ بعد انقضاء النكاح. وهذا يوضحه أن اليسار الطارىء لا يقطع عندنا نكاح الحر المسلم على الأمة إذا كان جرى النكاح في حالة الإعسار والعجز عن طَوْل الحرة. وسنذكر ما يمكن في الفرق بين طريان اليسار وبين طريان الإحرام وعدة الشبهة في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل. وأما ما تمسك به من الردة، ففيها إشكال-والحق أحق ما قيل- فإن الردة الطارئة على نكاح مدخول بها لا يتضمن تنجيز القطع، بل مقتضاها انتظار الإصرار عليها إلى انقضاء العدة، هذا هو القياس ولكن لاطريق إلا اتباع ما نقله هذه الإمام عن النص. ويمكن أن نفرق بين العدة والردة والإحرام فنقول: الردة على الجملة من قواطع النكاح، وإنما التفصيل في وقت قطعها، كما سيأتي، إن شاء الله عز وجل. والإحرام الطارىء لا يتصور أن يقطع دوام نكاح. ومن الدليل على تحقيق الفرق: أن الرجعية لو ارتدت، فارتجعها، لم تصح الرجعة، وإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة. ولو أحرمت الرجعية، فارتجعها زوجها، صحت الرجعة مع الإحرام، كما سيأتي ذلك في باب الرجعة، إن شاء الله عز وجل. هذا منتهى القول في هذه الحكايات. والذي ارتبكنا فيه غمرة إشكال نكاح المشركات، ولكنا بعون الله تعالى لا نغادر جهداً في كل ما يمكن من مواقع هذا الإشكال. والله الموفق للصواب. 8105- ومما نلحقه بهذا المنتهى: أن الرجل إذا أسلم والمرأة في بقية من العدة التي كانت مقترنة بالنكاح المعقود في الشرك-وقد تمهد أن ذلك مفسد للنكاح- وإنما غرضنا الآن الأخذ في نوع آخر من الإشكال: وهو أن الصيدلاني قطع جوابه بأن الرجل إذا أسلم وقد بقيت بقية من العدة المقترنة، فإنا نحكم بالفساد، وإن انقضت تلك البقية، ثم أسلمت، ولم يبق من العدة شيء وقت اجتماعهما في الإسلام. وكذلك القول في بقية مدة الخيار. والغرض من ذلك أنا لا نعتبر في بقاء العدة ومدة الخيار ليفسد النكاح حالة الاجتماع في الإسلام. وقد صرح بذلك الصيدلاني. وقال: إذا أسلم والمفسد قائم، كفى ذلك في إفساد النكاح، وإن كانت متخلفة، وكذلك لو أسلمت وهو متخلف، والعدة باقية ومدة الخيار، فالنكاح يفسد إذا اتصل بالإسلام منهما أو من أحدهما بقية المفسد. 8106- ولم يختلف من يبالَى به في أن الحر إذا نكح في الشرك أمةً ثم أسلم وهو موسر، والأمة متخلفة ثم زال اليسار، وأسلمت، وكان على شرط نكاح الإماء حال الاجتماع في الإسلام؛ أنه يمسكها. والنظر في هذا إلى حالة الاجتماع، لا يعتبر ما قبله ولا ما بعده. وهذا القياس يقتضي أن نقول: إذا اتصل المفسد بإسلام أحد الزوجين، ثم زال، فأسلم الآخر ولا مفسد حالة الاجتماع في الإسلام؛ فلا ينقطع النكاح. هذا موجب القياس الذي ذكرناه في اعتبار شرائط نكاح الإماء، ولم يصر إلى التسوية بين البابين معتبر من أئمة المذهب. وكان ذلك إشكالاً عظيماً. وإن ظن أنه يتأتّى الانفصال من هذا الإشكال بأن يقال: اليسار طارىءٌ على نكاح الأمة، وطريانه لا يوجب قطع النكاح، والعدة مقترنة بالعقد، وقد لحقها الإسلام، فهذا لا يحل الإشكال من أوجه: منها- أن ذلك لو كان صحيحاً، لوجب ألا يؤثر اليسار الطارىء حالة الاجتماع في الإسلام، فإنا إذا لم نجعل الإحرام مؤثّراً في النكاح، طردنا ذلك حالة الاجتماع في الإسلام أيضاً، وقضينا بأنه لا يؤثر، وكذلك الكلام في عدة الشبهة، إذا لم نجعلها مؤثّرة. هذا وجه. والوجه الثاني- أنا لو قدرنا اقتران اليسار بالعقد الذي جرى في الشرك، للزم أن نقول: إذا دام اليسار حتى أسلم أحد الزوجين؛ فسد النكاح، من جهة الاقتران الذي صورناه، وكما نشترط في الإسلام خلو المنكوحة عن العدة حالة النكاح، فكذلك نشترط في نكاح الحر الأمةَ العجزَ عن طَوْل الحرة حالة العقد، فلا فرق. وقد بطل التعويل على الاقتران والطريان. والوجه الثالث: في الإشكال: أن الشافعي وأصحابه اتفقوا على أن الحر إذا نكح في الشرك حرة وأمة، ثم أسلم وأسلمت الحرة، وتخلفت الأمة، وماتت الحرة بعد ما أسلمت، ثم أسلمت الأمة ولا حرة، ولا قدرة على طَوْل الحرة؛ فلا سبيل إلى إمساك الأمة؛ فقد جعل الأصحاب الحرةَ دافعة لنكاح الأمة المتخلفة. فهلا قالوا: إذا نكح أمة ثم أسلم، وتخلفت الأمة، فكان الزوج موسراً لما أسلم، فنجعل يساره دافعاً لنكاح الأمة كما دفعته الحرة! 8107- فهذه وجوه من الاعتراضات لا يستقل بأدناها الغواصون، ونحن نبتغي أن نجمعها، ثم نستعين بالله عز وجل في محاولة الانفصال عنها، وطردها على أبلغ وجه مع استفراغ الوسع والإمكان. فنقول-والله المستعان-: ما ارتكبه القفال-إن صح النقل عنه- في طريان الإحرام وعدة الشبهة، لا سبيل إلى ارتكابه، فيخرج هذا من أثناء الكلام، وليردِّد الإنسان نظره إلى نكاح الأمة وما يفرض فيه من يسار طارىء أو مقارن، فنقول أولاً: لا ينبغي أن يظن الفقيه أنا نفرق به بين اليسار المقترن بنكاح الأمة وبين اليسار الطارىء بعده، مصيراً إلى أن المقترن مُخِلٌّ بالعقد قادح في الشرط المرعي فيه، بخلاف الطارىء؛ فإن هذا تفصيل لم يصر إليهِ أحد من الأصحاب، ولم يتعرض له النص، فلا فرق عندنا إذاً، وانحسم هذا المطمع. ونحن نقول بعده: قد ثبت اشتراط العجز عن الطول في حق الحر المسلم، ولم يثبت عندنا اشتراط في نكاح الكافر الأمة، والذي يوضح الحق في ذلك: أن العبد ينكح الأمة عند الشافعي وإن لم يكن خائفاً على نفسه من العنت؛ من جهة أنه غير مؤاخذ بالنظر لولده وتبعيده عن الإرقاق؛ فإذا كان كذلك، فلا يتجه مؤاخذة الكافر بتبعيد ولده عن الرق، وهو وزوجته وذراريه عرضة لاسترقاق السابين. والذي يعضد هذا أنا أثبتنا العجز عن الطَّوْل وخوف العنت بالنص، ولم نحكم بهما قياساً، وإذا كان كذلك؛ والنص مختص بالمؤمنين، فإنه عز من قائل قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] وكان هذا خطاباً للمؤمنين. فإن أنكر منكر ذلك، وزعم أن الكفار يندرجون تحت قوله تعالى: {مِنْكُمْ} إذا قضينا بأنهم مخاطبون بخطاب الشرع، قلنا له: لا سبيل إلى تقدير ذلك وتخيّله مع قوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} ولا يتصور نكاح المؤمنات إلا من مؤمن. فيخرج مما ذكرناه أن اشتراط الإعسار غير ثابت في نكاح الكفار للإماء؛ فلا أثر للاقتران بالعقد، ومقترن اليسار بالعقد كطارئه عليه. وإن ألزم ملزم على هذا المنتهى نكاح الحرة؛ فإن الحرة تدرأ الأمة قبل الاجتماع في الإسلام مع الأمة، كما تقدم تصويره. ومذهب الشافعي أن الحرة والقدرة على طَوْلها يجريان مجرىً واحداً في نكاح الأمة نفياً وإثباتاً، وشرطاً وإسقاطاً؛ فإنا لما حكمنا بصحة نكاح العبد للأمة من غير اشتراط خوف العنت، قلنا مع ذلك: له أن يُدخل أمة على حرة، وله الجمع بينهما في عقدة، فلئن كان الكافر بمثابة العبد في نكاح الأمة، فليكن بمثابته إذا كان تحته حرة، وقد فرض منه نكاح الأمة. وهذا هو المنتهى في هذا المساق. 8108- ونحن نقول فيه بعون الله تعالى: الحرة لا تنزّل منزلة اليسار، بل الأمر فيها وفي اشتراط عدمها أعظم وأطم، والدليل عليه أن من كان في حِبالتهِ حرة غائبة، أو رتقاء لا تؤتى ولا توطأ؛ فليس له أن ينكح أمة ما لم يطلّقها، ولو وجد الرجل من المال ما ينكح به حرة غائبة، ولكنه لا يتوصل إليها إلا بعد زمان متطاول؛ فلا نجعل القدرة على نكاح غائبة بمثابة كون الغائبة في الحِبالة. وكذلك لو وجد الرجل طَوْل حُرة رتقاء، ولم يجد طَول حرة سليمة؛ فله أن ينكح أمة، بخلاف ما لو كانت الحرة الرتقاء في زوجيته وحبالته، فاستبان أن الحرة تدرأ إدخال نكاح الأمة عليها، من غير نظر إلى معنى العفاف والكفاف، والمال في غيبته لا يمنع نكاح الأمة. 8109- ولن يحصل شفاء الغليل فيما نحن له إلا بأمر نصرّح به تلقياً من كلام الأئمة، فنقول: بان لنا من مساق النصوص، وكلام الأصحاب أن العجز عن الطول ليس مرعياً في أول نكاح الكافر الأمةَ، لما قدمناه، ثم تمهد لنا اعتباره عند إمكان الإمساك في الإسلام، فكأن الشرط المشروط في نكاح الحر المسلم الأمةَ مستأخَر في نكاح الكافر إلى وقت الاجتماع في الإسلام، وليس ذلك أمراً بدعاً، ونحن قد نلقى من معاصات الفقه في محالّ الاستغراق ما هو أغمض من هذا. ثم نرى اشتراط الحرة أعلى، ونجعلها مؤثرة قبل الاجتماع في الإسلام في دفع نكاح الإماء المتخلفات، لما أشرنا إليه من أن الحرة تدفع إدخال الأمة عليها بعينها، فغاية هذا الفصل فَرْقُنا بين الحر المسلم في نكاح الأمة، وبين الكافر في نكاح الأمة-فيما يتعلق باليسار- في أنا نعتبر في نكاح المسلم حالة العقد العجزَ، ولا نعتبر ذلك في نكاح المشرك، بل نعتبره حالة الاجتماع في الإسلام. وهذا متضح على حسب ما يليق بهذا الباب. ثم وراء ذلك الفرقُ الذي ذكرناه بين اليسار وبين الحرة. 8110- ومن لطيف المذهب ما نذكره الآن-وهو مقصود في نفسه- وبه يعتضد ما ذكرناه: أن الأصحاب أجرَوْا في أثناء المسائل اختلافاً في أن الاختيار في النكاح الذي مضى في الشرك إذا اتصل بالإسلام يجري مجرى ابتداء النكاح، أو يجري مجزى الاستدامة؟ وربما أطلقوا قولين-وليسا منصوصين عندهم، وإنما هما مستنبطان من قضايا الأحكام- أحدهما- إنه بمثابة الاستدامة، وهو قول أبي ثور، ودليل هذا القول أنه مقرر على النكاح الذي مضى في الشرك، ولا حاجة إلى إفساخ عقد، وليس بين الاستدامة والإفساخ مرتبة. فإذا لم يكن ابتداءٌ، تعيّن الحكم بالاستدامة. والشرائط المرعية في ابتداء النكاح ليست معتبرة في الاختيار. والقول الثاني- إن الاختيار بمثابة ابتداء النكاح، ودليله أنا نراعي في اختياره الأَمة أن يكون عادماً لطَوْل الحرة، خائفاً على نفسه من العنت، وإنما يراعى هذان الشرطان في ابتداء العقد، وهذا القائل لا يزعم أن الاختيار ابتداء على الحقيقة؛ إذ لا يصير إلى هذا محصّل مع القطع بأن ابتداء النكاح ليس مشروطاً، وأن المرة ممسَكَةٌ بنكاح الشرك، ولكنه يقول: الاختيار كابتداء النكاح وحالّ محله، ودليله ما ذكرناه في نكاح الإماء. فإذا تبين هذا من كلام الأصحاب، فالتحقيق عندنا أن هذا التردد إنما ينشأ من مسألة الأمر، ومن اشتراط العجز عن الطَّوْل وخوف العنت عند الاجتماع في الإسلام. ولولا هذه المسألة، لما خطر للفقيه أن الاختيار مشبه بالابتداء. ومن أحاط بما قدمناه، تبين له أن هذا الاختلاف لا حاجة إليه، ولكن الوجه القطعُ بموجب الاستدامة، والمصيرُ إلى أنا لا نرعى في نكاح المشرك الأمةَ العجزَ وخوفَ العنت، كما قررناه، ولكن لا نرفع اعتباره من البين. ويزدحم على هذا المقام المعنى الذي حمل المُزنيَّ على المصير إلى أن اليسار الطارىء يقطع نكاح الأمة. فكأن الأصحاب وإن لم يرَوْا ذلك مذهباً في النكاح الذي جرى على الصحة مستجمعاً لشرطَي العجز وخوف العنت، لم يُبعدوا اعتبار مذهبه في الجريان في نكاح المشرك الأمةَ إذا اتصل بالإسلام، وانضم إليه تأخير شرط لم نعتبره في النكاح إلى حالة الاختيار، فأي حاجة إلى ترديد القول؟ وإنما شذت هذه المسألة، لا من جهة أن الاختيار ابتداء، أو نازل منزلة الابتداء؛ فلا وجه إلا القطع بأن الممسك مستديم؛ لأنه كذلك حقاً، ثم ينظر الناظر في مسألة الأَمة بطريق النظر فيها. وإذا كان الذي يدّعي التشبيه بالابتداء لا يستمسك إلا بمسألة الأمة-وهي مسلّمة، وعليها كلام لا بأس به على ما يضيق بالمضايق- فالوجه ذِكر هذه المسألة وبيان شذوذها وذكر التفصِّي عنها. وإن تكلف متكلف وفرض طريان الحرة على الأمة، وطلب أن يلحق طريانها بطريان عدة الشبهة؛ كان جوابه أن الشرع أبطل اعتبار تواريخ عقود الشرك، وكفانا مؤونة النظر فيه، ودلت عليه الأخبار الناصّة، فجعلنا المتقدم والمتأخر بمثابة العقد الواحد الشامل، كما تمهّد. 8111- ونحن ننظم الآن تراجم لما تقدم، حتى تكون ضابطة لها، ونقول: المفسد المقترن بعقد الشرك إذا انقطع قبل الإسلام، فلا مبالاة به. وإن دام إلى إسلام أحد الزوجين، حكمنا بفساد النكاح. وما يطرأ بعد النكاح-كعدة الشبهة- لا مبالاة بها، وإذا دامت إلى الإسلام-كما نقله صاحب التقريب- ففيه الكلام البعيد الذي حكاه بعض الأصحاب عن القفال. وما يطرأ بعد الإسلام كالإحرام لا مبالاة به، ولا أثر له في منع الإمساك والاستدامة إلا على المسلك البعيد المحكيّ عن القفال. وفي طريان الردة بعد الإسلام نص وتردد- كما قدمناه. وأما اعتبار العجز والخوف في نكاح الأمة، فليس من قبيل الشرائط التي تدوم من النكاح إلى الإسلام، وقد أوضحنا أن لا نشترط في نكاح المشرك الأمة عجزاً ولا خوفاً، وإنما اعتبرناهما في الدوام لا على قياس الشرائط، بل هو أصل مستفتح كما مهدناه. والحرة مع الإماء في نكاح الإماء تنزّل منزلة العدة المقترنة إذا دامت إلى الإسلام؛ فإنها تدرأ بنفسها نكاح الأمة. وقد طرّقنا إلى كل طريق أسئلة، وأتينا بالممكن في الجواب عنها. وإنما اضطربت هذه الفصول بعض الاضطراب؛ لأن الأخبار- التي هي أم الباب، حسمت مسالك القياس في قواعد نبّهنا عليها، ولسنا نترك جميع القياس؛ وإذا تركّبت المسائل من مراعاة الأقيسة والأصول المستثناة عنها، كانت كذلك، ونهاية الفقه الإحاطة بالشيء على ما هو عليه، فمن طلب من هذه المسائل ما يطلب من المسائل القياسية، فليس يبغي العلم بمسائل المشركات؛ فإنه يطلب منها ما يخالف وضعها. وقد تم الغرض من هذا الأصل. 8112- الأصل الثالث: في بيان ما يراه الكفار نكاحاً، وما لا يرونه نكاحاً. قال علماؤنا: إنا نقرهم إذا أسلموا على ما كان نكاحاً فيهم، فأما إذا كان يختص بعضهم بامرأة مسافحاً زانياً من غير عقد، فإذا أسلم، فلا حكم لما كان في الشرك. وإن جرى في الشرك ما يعد فيهم نكاحاً، فقد يُقَرر عليه- على ما مهدنا الأصول فيه. وستأتي تفاصيلها في مسائل الباب، إن شاء الله عز وجل. ثم إن كانت تلك العقود فاسدة في حكم شرعنا، فقد فصّلنا القول في المفسد ودوامه وانقطاعه. 8113- ثم قال الأئمة: لو أجبر الكافر ابنته على النكاح، حيث لا يجوز الإجبار في الإسلام، ثم إنهم كانوا يجوّزون ذلك فيما بينهم؛ فإذا فرض إسلام الزوج معها، فالنكاح لازم، ولا خيار لها، ولا نظر إلى مخالفة إجبارهم لموجب شرعنا، كما لا نظر إلى اعتبار شرائط الإسلام في الوجوه التي ذكرناها. ولو غصب كافر امرأة لتكون مفترشة له، لا ليسترقها، فقد حُكي عن القفال فيما حكاه الصيدلاني: لا نقر هذا المغتصب إذا اتصل النكاح بالإسلام، وإن كانوا يرون ذلك نكاحاً؛ إذ لابد من جريان صورة عقد، ثم النظر في تفصيله على ما تقدم. وقال الأصحاب بأجمعهم: إذا كانوا يرون ذلك نكاحاً، فهو نكاح. قال الصيدلاني: القياس يخالف ما ذكره القفال. ولم أر هذه الحكايةَ عن القفال إلا من جهته؛ فإن أصحاب القفال أجمعوا على أنهم إذا رأوا ذلك نكاحاً، فهو نكاح، واعتلّوا بأنهم إن أقاموا الفعل مقام القول في عقدهم، فقد تركوا اللفظ، وهو شرط عندنا بمثابة تركهم سائر الشروط. ومما ذكره الأئمة أن الكافر إذا نكح نكاح متعة- وهو النكاح المتأقت ثم اتصل النكاح بالإسلام؛ فلا تقرير على ذلك؛ فإن المدة المضروبة إن كانت قد انقضت قبل الإسلام، فإنهم لم يعقدوا النكاح وراء المدة، وإن كانت المدة باقية، فالتقرير على النكاح المؤقت محال، إلا أن يروا في دينهم أن مؤقّت النكاح مؤبّد، كما نرى مؤقّت الطلاق مؤبّداً؛ فحينئذ يقر على النكاح، وإن كان الإسلام بعد انقضاء المدة. 8114- ولو جرى نكاح في الشرك وكانوا يرونه نكاحاً، ولكنهم اعتقدوه فاسداً فيهم؛ فهذا مما كان يتردد فيه شيخي-وهو لطيف- سمعته يقول: لا يُقَر عليه؛ فإنهم لم يروه صحيحاً؛ والفاسد ليس بعقد، وسمعته يذكر في مجالس الإفادة والإلقاء أن ما رأوه فيهم بمثابة نكاح الشبهة فينا، فإذا أسلموا عليه أقررناهم، وإنما لم نقرّهم إذا لم يجدوا ما يكون من قبيل النكاح عندهم. والذي أراه أنهم لا يُقرّون على ما اعترفوا بفساده فيهم، إذا كان فاسداً في ديننا أيضاًً، وأما ما اعترفوا بفساده، وهو صحيح في ديننا؛ فيتجه تقريرهم إذا أسلموا. فإن أصل النكاح جرى، ثم انتهى إلى الإسلام، وهو يتضمن تصحيحه. وهذا يتطرق إليه احتمال ظاهر؛ من جهة أنا لم نفرق في العقود المشتملة على الأعداد الزائدة على مبالغ الحصر الشرعي بين العقد السابق وبين العقد المتأخر، وإن كنا في الدين نصحح المتقدم ونبطل المتأخر، فكان التعويل في نكاحهم على اعتقادهم. 8115- ثم قال الشافعي في هذا الأصل: لو نكح المشرك امرأة بغير صداق، فأسلم، فلا صداق لها. وصورة المسألة: أنهم يعتقدون أن الصداق لا يثبت إذا لم يذكر، ويرون سقوط اعتباره وإن أفضى النكاح إلى الوطء. ثم نقول على موجب ذلك: إذا أسلما، فمسّها في الإسلام، لم يلتزم مهراً، بناء على اعتقادهم في التفويض وتعرية النكاح عن الصداق. وإن كانوا يعتقدون مثل اعتقادنا في أن النكاح وإن عري عن التسمية؛ فالمهر يثبت الوطء، فيثبت موجب عقدهم. ولعلنا نعود إلى ذلك في باب مُفرد معقود في نكاح أهل الذمة. وإذا انتهى الناظر إلى هذا المنتهى، فليتأمل انعكاس الأمر؛ فإنا في القواعد نستتبعهم ونكلّفهم أن يتبعونا، وقد صرنا نتبعهم في عقدهم، كما نبهنا عليه. وتمام البيان في ذلك في الباب الذي ذكرناه. 8116- وقد نجزت الأصول الموعودة المقدمة على نكاح أم وابنتها، ولا اختصاص لهذه الأصول بهذه المسألة، ولكني رأيت تقديمها على مسائل الباب؛ فإن منشأ الغموض منها، ومن أحكم ما قدمناه، هانت عليه المسائل بعدها. 8117- فنعود إلى مسألة الكتاب، ونقول: إذا نكح الكافر أماً وابنتها، إما في عقد واحد وإما في عقدين؛ فلا فرق، لما قدمناه من سقوط اعتبار تواريخ عقود الشرك، فإذا أسلم وأسلمتا، فلا يخلو، إما أن يكون دخل بهما، أو لم يدخل بهما، أو دخل بإحداهما. فإن دخل بهما؛ فهما محرّمتان عليه على الأبد؛ إذ وطْءُ كل واحدة على الشبهة يحرّم الأخرى، وقد بيّنّا أن التقرير على نكاح المحارم محال. ولو لم يدخل بهما، فقد نقل المزني عن الشافعي أنه قال: قلنا: اختر من شئت منهما، فإن اختار الأم، اندفعت البنت، وإن اختار البنت، اندفعت الأم، فهذا هو الذي نقله المزني من جواب الشافعي في صدر المسألة. ثم قال: وقال في موضع آخر: يمسك البنت ويفارق الأم، فيتعين للبنت الإمساك وللأم التحريم، واختار المزني هذا القولَ الأخير، واعتلّ بأن النكاح على الأم لا يحرم البنت إذا لم يجر دخول، والنكاح على البنت يحرم الأم، فقد صارت الأم بنكاح البنت محرمة، فتعينت للتحريم، وتعينت البنت للإمساك. وهذا الذي ذكره المزني على نهاية الوضوح. واضطرب أصحابنا بعد هذا النقل والاختيار: فذهب الجماهير إلى بناء القولين على أن لنكاح الشرك حكماً أم لا؟ فإن قلنا: له حكم، لم يمسك إلا البنت، لما تقدم من أن العقد على البنت يحرم الأم. وإن قلنا: لا حكم لنكاح الشرك، فيتخير فيهما. هكذا نقل الصيدلاني وغيره ممن يوثق بنقله. وهذا على هذه الصيغة فاسد؛ فإنه لم يصر محقق إلى قوله، فلا تعويل على أن نكاح الشرك لا حكم له، وكيف يستجيز المستجيز هذا مع التقرير عليه، والمصير إلى إيجاب الإمساك، إلا أن يُطلِّق، والكلام في التضعيف والتزييف بعد الانتظام. ومن قال: يُقَر على نكاح الشرك، ثم قال: لا حكم له، كان كلامه متناقضاً، فلا وجه لتنزيل القولين إلا ما مهدناه في الأصل الأول من أن الكافر إذا نكح أختين، فنحكم بصحة النكاحين، أو نُعرض: فلا نحكم بصحة ولا فساد قبل الاتصال بالإسلام؟ فإن حكمنا بانعقاد النكاحين، فنقول بحسبه: ينعقد النكاح على الأم والبنت، ثم يدرأ الإسلام نكاحَ الأم ويحرّمها بنكاح البنت. وإن أعرضنا عن عقودهم، فحقيقة هذا القول أنا عند الاتصال بالإسلام نتبين تصحيح ما يقع الاختيار عليه، مستنداً إلى حالة النكاح في الشرك؛ فعلى هذا لا نثُبت القول بصحة النكاح على البنت، كما لا نقطع به في نكاح الأم. فإذا أسلموا خيّرناه. فإن اختار الأم، اندفعت البنت، وليست محرَماً، ولكنها تندفع اندفاع الأخت. فإن اختار البنت، تبيّنّا صحة النكاح فيها، واندفع نكاح الأم بالمحرمية. وهذا القول هو المذهب الذي أجاب به ابن الحداد، حيث قال: إذا نكح المشرك أختين، وطلّق كل واحدة منهما ثلاثاً، ثم أسلم وأسلمتا، وقد مضى جوابه، وبان خروجه على الأصل الذي ذكرناه، وفائدة تقديم الأصول الإحالة عليها. 8118- ثم قال ابن الحداد في مسألة الأم والبنت: إن فرّعنا على قول التخيير، فإذا اختار إحداهما، التزم نصفَ مهر التي فارقها؛ فإنّ تعيّنها للفراق محال على اختياره؛ وكان تسبّبه إلى الفراق بمثابة الطلاق قبل المسيس. قال القفال: هذا الذي قاله غلط، والأمر بالضد؛ لأنا إذا قلنا: يتخير، فإنما ذلك لأن نكاح الشرك لا حكم له؛ فكيف يجب الصداق؟ وإن قلنا: البنت تتعين للإمساك، فيجب نصف مهر الأم، لأن هذا تفريع على أن نكاح الشرك يصح. فقد صح النكاح على الأم، ثم اندفع. وهذا الذي ذكره القفال من الاعتراض في صيغته خلل؛ لأنه زعم أن التخيير مبني على أن نكاح الشرك لا حكم له، وهذا كلام فاسد لما ذكرناه. نعم، يتوجه الاعتراض على ابن الحداد على صيغةٍ أخرى- قدمناها في تمهيد الأصل الأول، وعددناها من الإشكالات على ابن الحداد. وأما ما ذكره القفال من أنا إذا عيّنّا البنت للنكاح، فيثبت نصف المهر للأم، ففي نفسي من هذا شيء، وهو أن النكاح إذا صح على البنت، فقد صارت الأم محرماً. ونحن وإن صححنا أنكحتهم، فليس ينقدح تصحيح النكاح على محرم. ويبعد عندي كل البعد أن نقول: الكافر إذا نكح أُمَّه، ثم أسلما وما كان مسها؛ أنه يجب عليه نصف مهرها، وإنما ينقدح تصحيح النكاحين على الأختين؛ فإن كل واحدة منهما قابلة للنكاح، والجمع بينهما في حكم الشرط الفاسد المفسد في الإسلام، فإن أوجبنا مهر التي يفارقها من الأختين، فهو متجه تخريجاً على تصحيح أنكحتهم، فأما إيجاب نصف مهر المحرّمة من غير مسيس فبعيد. 8119- والذي ينتظم لنا من مجموع ذلك في المهر: أن من نكح أختين، ثم اختار إحداهما في الإسلام، ولا مسيس؛ ففي وجوب نصف المهر للمفارَقة قولان مأخوذان من تصحيح الأنكحة والإعراض عنها وردّ الأمر إلى التبيّن آخراً. فإن حكمنا بالصحة، أوجبنا نصف المهر للمفارَقة. وإن أعرضنا ثم تبيّنّا، فالمفارَقة ما كان انعقد عليها نكاح، فلا مهر لها. وهذا يطّرد في الزيادة على الأربع. فأما إذا نكح محرَماً؛ فالذي ذكره القفال أن وجوب نصف المهر لها قبل المسيس، وقد اتصل النكاح بالإسلام، فيخرّج على قولي الصحة والفساد. والذي أراه: القطع بأنه لا شيء لها من المهر، ولا نقول: انعقد عليها نكاح في الشرك، ثم انفسخ بالإسلام. وذكر الصيدلاني وشيخي طريقة أخرى في المسألة، فقالوا: البناء على أن نكاح الشرك لا حكم له فاسد، فالوجه أن نأخذ اختلاف القولين من أصل آخر، وهو ما قدمنا ذكره من أن الاختيار ينزّل منزلة ابتداء النكاح أم هو على حقيقة الإمساك؟ وقد قدّمنا تردد الأصحاب في هذا. وإنما الذي نحتاج إلى ذكره تلقّي القولين من هذا الأصل، فنقول: إن اختار البنت، صح بكل حال قدَّرناه: مبتدئاً أو مستديماً، والعقد في الأم باطل. وإن اختار الأم، فإن قلنا: ذلك استدامةٌ، صح. ونقدّر كأنه نكح الأم، ثم أدخل على نكاحها نكاح البنت، فليقع التمسكُ بدوام النكاح في الأم. وإن قلنا: الاختيار كالابتداء، فلا سبيل إلى اختيار الأم؛ وكأنه يبتدىء النكاح عليها، وقد عقد على ابنتها أولاً؛ فإن نكاح البنت صحيح من غير اختيار، واختيار الأم بمثابة نكاح عليها بعد تقدم النكاح على بنتها. وهذا كلام خسيس؛ فإنا أوضحنا في الأصول أن ترديد القول والرأي في أن هذا ابتداءٌ أو إمساكُ، لا حاصل له. ثم ليس ينتظم بناء هذه المسألة على ذلك إن صح ترديد القول فيه؛ فإن النكاح إذا صحّ على البنت، فأي أثر لاعتقاد الإمساك في الأم؟ وصحةُ النكاح على البنت يثبت المحرمية، وسقوط هذا الكلام منتهٍ إلى خروجه عن العقل ودرك الفهم. ومن ظن أن هذه المسألة تؤخذ من غير صحة النكاح، أو الإعراض عنه، فليس مطّلعاً على المسألة. ثم تبرم الصيدلاني بالطريقين، وقال: الوجه- القطع بتعيّن البنت للنكاح، وتعين الأم للمحرمية، كما اختار المزني، ونجعل القول الآخر حكايةَ مذهب الغير، كأنه حكى مذهباً، ثم اختار مذهباً غيره، ولا يلزمه أن نجعل قولَه: "قد قيل كذا" مذهباً له. هذا لفظه في كتابه. ولست أدري على ما يُحمل هذا؟ وليس في السواد: قد قيل، وهو صدّر هذا الفصل بلفظ (المختصر) ولفظه: "إذا نكح أماً وابنتها وأسلموا، قلنا له: اختر أيتهما شئت". ثم لم ينقل المزني في هذا الموضع إلا هذا. فلما استكمله نقل بعده نصاً آخر، فكيف يتجه هذا الذي ذكره؟ ثم إنما تبرم بما ذكره الأئمة؛ من جهة أنه اعتقد أن في الأصحاب من يقول: لا حكم لنكاح الشرك، وهذا غير سديد، والأمر على ما قدره. ولكن هذا القول ليس على هذا الوجه، وإنما هو على الإعراض والتبيّن، كما مضى. وقد نجز هذا الغرض على وجه لا يبقى بعده غائلة على ناظر. وكل ما ذكرناه فيه إذا وطئهما، أو لم يمسهما جميعاً. 8120- فأما إذا كان دخل بإحداهما، فإن وطىء الأم، ثم اختار البنت، لم يجز. وإن اختار الأم، جاز على أحد القولين، وهو إذا لم نجعل العقد على البنت محرِّماً، وإن جعلنا العقد على البنت محرّماً للأم؛ فقد حرمتا جميعاً: حرمت الأم بالعقد على البنت، وحرمت البنت بوطء الأم. وإن كان وطىء الابنة، فلا يجوز اختيار الأم على القولين؛ فإن العقد إن حرم الأم، فذاك، وإلا فالوطء حرمها. وإن أراد اختيار البنت، فهي معيّنة له، ولا حاجة إلى اختيار؛ فإن الأم- إذا تعينت البنت للنكاح، فلفظ الاختيار فيها مجاز. فصل: قال: "وإذا أسلم وعنده أربع زوجات إماء... إلى آخره". 8121- الحر إذا نكح إماءً في الشرك، ثم أسلم وأسلمن؛ فأصل الفصل أنا نعتبر حالة الاجتماع معهن في الإسلام، فإن كان على شرط نكاح الإماء، بأن كان عادماً لطَوْل الحرة خائفاً على نفسه من العنت، فله أن يختار واحدة منهن، والعبرة بحالة الاجتماع لا غير، حتى لو أسلم الزوج أولاً، وكان على شرط نكاح الإماء، ثم أسلمت وقد أيسر؛ فلا يختار الأمة؛ لأنه حالةَ الاجتماع ليس على شرط نكاح الإماء بأن كان موسراً حالة الاجتماع. ثم إنه إن أعسر من بعد، فاجتماع شرائط جواز نكاح الإماء بعد الاجتماع في الإسلام لا يفيد شيئاًً. ولو كان على شرط نكاح الإماء حالة الاجتماع في الإسلام، ثم أيسر من بعدُ، لم يضر، وله إمساك الأمة. فالتعويل إذاً في اعتبار الشرائط بحالة الاجتماع في الإسلام لا غير، والسبب فيه أنه لما عسر اتباع الشرائط حالة العقد، كان أولى الأوقات باعتبارها حالة إمكان الاختيار، وذلك حالة الاجتماع في الإسلام؛ فإن الأمة لو تخلفت، وأسلم الزوج، فاختيارها غير ممكن؛ فإن الأمة الكتابية لا تكون منكوحة المسلم. وإن أسلمت الأمة، فاختيار الكافر المسلمة محال؛ فيتعين اعتبار أول حالة الاجتماع في الإسلام؛ فإنه أول الإمكان، ثم إذا لم تثبت الشرائط في هذه الحالة، اندفع نكاحها، فإذا اندفع، لم ينفع استجماع الشرائط من بعدُ. وإذا كانت الشرائط مجتمعة، ثبت النكاح. فطريان اليسار بعده بمثابة طريان اليسار على ناكح أمةٍ، وقد صح له نكاحها؛ فتبين أن المرعي حالةُ الاجتماع، والمعتبر أول حالة الاجتماع من الجليات التي يتعين ذكرها، فكم رأيت المنتمين إلى التحقيق يزلّون فيها في أثناء المسائل، ويقولون- إن الاعتبار في الاجتماع في الإسلام بمدة العدة، حتى لو فُرض إصرار أحد الزوجين على الكفر حتى انقضت العدة، تبيّنا انبتات النكاح. فلو قال قائل: إذا فرض الاجتماع في الإسلام في العدة، وشرائط نكاح الإماء غير مجتمعة، فارتقبوا اجتماعها في العدة. قلنا: لا أثر لأمد العدّة إلا في الاجتماع في الإسلام فحسب، فهو المتعلق بالعدة، ثم ليس بعد ذلك إلا اندفاع النكاح شرعاً أو تقرره. فإن كانت الأمة واحدة، تعينت، ولا معنى لذكر الاختيار فيها. وإن أسلم وأسلمت معه إماء والشرائط مجتمعة، ثبت نكاح واحدة، وإنما إلى الزوج تعيينها، فلو لم يعيّنها حتى انقضت العِدة، لم يضر تأخير التعيين عن انقضاء العدة؛ فإنا نحصر أثر اعتبار العدة في الاجتماع في الإسلام. وإنما ذكرت هذا على وضوحه؛ فإن الفقيه قد يسبق فكره في انغماره في طرق النظر أن الأمة إذا أسلمت مثلاً، ثم أسلم الزوج بعدها، وكان موسراً؛ فإن الإسلام مع اليسار في عدم إفادة النكاح كالإصرار على الكفر، وهذه النادرة لا تعويل عليها. فإذا تمهد ما ذكرناه، فليعتقد أنه الأصل والمذهب. 8122- وحكى صاحب التقريب قاعدة المذهب-كما ذكرنا- ومهّدها أحسن تمهيد، ثم نقل عن أبي يحيى البلخي أنه قال: يعتبر في الإعسار واليسار وخوف العنت حالة إسلام من تقدم بالإسلام من الزوجين، ولا يعتبر حالة اجتماعهما، حتى لو نكح أمةً واحدة مثلاً في الشرك، ثم أسلم وهي متخلفة، ولما أسلم كان معسراً خائفاً من العنت، ثم أسلمت وهو موسر- وذلك في العدة، قال: فله إمساكها اعتباراً بحالة إسلامه، وكذلك لو أسلمت هي أولاً وهو معسر خائف من العنت، ثم أسلم في العدة وهو موسر، فله إمساك الأمة، اعتباراً بالصفة التي كان الزوج عليها لما سبقت بالإسلام. وهذا الذي ذكره سخف لا يساوي الذكر، ولا حاجة إلى ذكر وجه الرد عليه. نعم، لو قال: إذا أسلم الزوج، وتخلفت الأمة وكان الزوج موسراً، فيندفع نكاح الأمة بيسار الزوج، لكان هذا متجهاً بعض الاتجاه؛ مصيراً إلى أن اليسار إذا اتصل بالإسلام، كان اتصاله بمثابة ما لو أسلم الزوج وأسلمت معه حرة وتخلفت أمة، فنكاح الأمة يندفع بإسلام الحرة مع الزوج، وإن لم يكن إسلامها معه في حالة اجتماع الزوج والأمة في الإسلام. وقد تمهّد أن اليسار في حق الحر ينافي نكاح الأمة منافاة الحرة لنكاحها. وكان يعتضد ذلك باتصال بقية العدة المقترنة بالنكاح بالإسلام، كما سبق إيضاحه وتمهيد الأصول. هذا طرفٌ لو قال به واقتصر عليه، لوجد مستمسكاً. فأما إذا ضم إلى ذلك أنه لو أسلم وهو معسر خائف من العنت، والأمة متخلفة، ثم أيسر، فأسلمت والزوج موسر، فله أن يمسكها اعتباراً بالإعسار المتقدم على الاجتماع في الاسلام، فلا يخفى اضطراب هذا المذهب. 8123- ومما نذكره: أنه لو أسلم وتحته حرّة وأمة، فتنقسم المسألة أقساماً، ونحن نأتي على جميعها، إن شاء الله عز وجل. فإن أسلمت الحرة وقد أسلم الزوج وتخلفت الأمة، تعيّنت الحرة واندفعت الأمة، وكذلك لو أسلمت الأمة مع الحرة، فيندفع نكاحها، وتثبت الحرة متعينة. ولو أسلمت الحرة، وماتت، ثم أسلمت الأمة والزوج معسر خائف ولا حرة؛ فإن التي كانت ماتت قد تعينت قبل هذا، فليس له أن يمسك الأَمة. وهذا مما مهدناه قبلُ. والقول الوجيز فيه: أن الحرة إذا تعينت، انبتَّ نكاح الأمة؛ إذ لو كانت مسلمة، لاندفعت، فتوقع إسلامها لا يزيد على حقيقة إسلامها، وإذا اندفع نكاحها، لم يَعُد بموت الحرة، فلو أسلم وهو موسر والأمة متخلفة، لم يندفع نكاحها؛ فإن اليسار إنما يدفع نكاح الإماء ممكناً. فيقال: إذا أمكن التوصل إلى نكاح الحرّة؛ فلا يجوز التوصل إلى نكاح الأمة. وإذا كانت متخلفة؛ فلا اعتبار بها، والمال في عينه لا يدفع نكاح الأمة، وقد تقدم في هذا ما فيه كفاية، وهذا مما يعد غمرة في الباب. وقد انتجز الفراغ منه. 8124- ولو أسلم الزوج وأسلمت الأمة معه، وتخلفت الحرة، لم نقطع بإمساك الأمة. وكيف نقطع به ونحن نجوّز أن تكون تحته حرة، وذلك بأن تسلم المتخلفة. فإن قيل: هذا ينقض اعتبار حالة الاجتماع! قلنا: حاش لله! هو طرد ذلك الأصل؛ فإن من شرط نكاح الأمة ألا يكون تحت الحر حرة، وهذا لا نتحققه ما لم تنقضِ عدة الحرة على إصرارها، فإن أصرت، تبيّنّا أن نكاح الأمة ثبت قبلُ، ولا نقول: نتبين ثبوتَه حالة الاجتماع، بل إذا اتفق الاجتماع، تبيّنّا النكاح أصلاً، وحكمنا أن النكاح لم يزل قائماً دائماً. ولو تخلفت الحرة وأسلم الزوج والأمة، وماتت الحرة في العدة، تبينّا ثبوت نكاح الأمة؛ فإن الحرة لما ماتت، انتهت العدة بموتها، وأُيس من نكاحها، وكان انتهاء العدة بالموت بمثابة انقضائها وهي مصرة على الشرك. ولو أسلمت الحرة وتخلف الزوج، فماتت الحرة، ثم أسلم الزوج، وأسلمت الأمة في العدة، أو كانت أسلمت من قبل، فيثبت نكاح الأمة؛ فإن إسلام الحرة مع تخلف الزوج لا يثبت نكاحها، وما لم يثبت نكاحها، لم يندفع نكاح الأمة. وكل ذلك واضح لمن أحكم الأصول. فصل: قال: "ولو أسلم بعضهن بعده فسواء، وينتظر إسلام البواقي... إلى آخره". 8125- هذا الفصل يجوز أن يكون مفروضاً في نكاح الإماء؛ لأنه منعطف على الفصل المتقدم. ولكن غرضه لا يختص بالإماء، ونحن نذكر المقصود في الحرائر، ثم نوضح جريانه في الإماء، إن شاء الله عز وجل. فنقول: الحر إذا أسلم وتحته حرائر، فإن أسلمن في العدة، أو أسلمن معه، وكن أربعاً، ثبت نكاحُهن قطعاً، ولا حاجة إلى الاختيار؛ فإمساك العدد المتبوع واجب؛ وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "أمسك أربعاً" محمول على الإلزام، وطريق المعنى فيه متضح؛ فإن الشرع إذا سوّغ الإمساك، فمعناه أنه أبان دوام النكاح، فإذا كان نكح أربعاً، وأسلمن معه؛ فهن منكوحات. وإن كان نكح عشراً، فأسلم وأسلمن، فيتعين عليه اختيار أربع منهن، وهذا واجب، والبدار إليه محتوم؛ فإن النسوة يبقين محصورات، والمنكوحات منهن بعضهن. وسيأتي هذا الفصل، إن شاء الله تعالى بما فيه. ولو كان نكح عشراً، فأسلم منهن أربع، وتخلفت الباقيات، لم تتعين المسلمات للنكاح؛ فإنا نجوّز أن تسلم البواقي، ولا يلزم الزوج-والحالة هذه- أن يبتدر إلى تعيين المسلمات؛ فإنه ربما يبغي تعيين من ستسلم من المتخلفات؛ فلو أسلمت أربع، فتوقف الزوج-كما بيناه- ثم أصرت البواقي حتى انقضت عِددهن، فالآن نتبين أن المسلمات قد تعيّنّ، ولا حاجة إلى الاختيار فيهن. وكذلك لو أسلمت أربع، وتخلّفت البواقي، ثم مُتن على الشرك في العدة؛ تعيّنت المسلمات. ولو أسلمت أربع وتخلفت البواقي، فقال: رددت نكاح المسلمات، وسأختار من المتخلفات إذا أسلمن؛ فنقول: لا ينفذ ردك؛ فإن المتخلفات ربما لا يسلمن؛ فلا نحكم بتنجيز الرد. ولو أسلمت خمس، فله أن يرد نكاح واحدة منهن بعينها؛ إذ ليس في رد نكاحها ما يخرم العدد المعتبر؛ فإنه إذا رد الخامسة، بقيت من المسلمات أربع، وفيهن مقنع. ولو أسلمت أربع، فقال: فسخت نكاحهن؛ فقد ذكرنا أنا لا ننفذ الفسخ؛ فإنه ربما لا يسلم غيرهن، فإن أصررن، فالأمر على ما ذكرنا، والمسلمات متعيّنات، والفسخ فيهن لغو. وإن أسلمت الباقيات-وهن أربع فصاعداً- فهل نقول الآن: الفسخ المتقدم في السابقات بالإسلام نتبين نفوذه الآن، ويلزمه أن يختار من البواقي اللاتي أسلمن أربعاً؟ فعلى وجهين؛ ذكرهما العراقيون: أحدهما: أنا نتبين نفوذه. والثاني: أن المقدم مُلغى، فإن أراد فسخاً، فلينشئه الآن. وهذا خارج على أصل الوقف، وفي وقف الفسخ من التردد ما في وقف العقد؛ فإن الفسخ لا يقبل التعليق بالصفة، كما أن العقد لا يقبله، وهو تلْو العقد، فكان في معناه. وسيأتي لذلك نظائر في مسائل الباب، إن شاء الله عز وجل. ولو أسلم من النسوة واحدة، لم يفسخ نكاحها، كما لم يفسخ نكاح الأربع. ولو أسلمت أربع، ثم مُتن، ثم أسلمت البواقي، وقال: اخترت نكاح الميتات؛ فله ذلك؛ فإن الاختيار بيان، والمختار أن يبين أنهن لم يزلن منكوحات من وقت العقد، فيرثهن. ولو أسلمن ومُتن ولم تسلم المتخلفات، ورث الميتات من غير حاجة إلى الاختيار؛ فإنهن تعيّنّ من غير اختيار منه للزوجية. 8126- ولو فُرضت أحكام الاختيار في الإماء وصوّبنا اجتماع شرائط نكاح الإماء؛ فالتفريع على حسب ما ذكرناه. غير أن المختارة من الإماء واحدة، فالقول في أمة واحدة تُسلم، كالقول في أربع من الحرائر يُسلمن؛ إذ لا مزيد للحر على أمة واحدة، إذا استجمع شرائط نكاح الإماء. فرع: 8127- إذا نكح الرجل في الشرك جمعاً من الإماء، ثم أسلم، وأسلمت واحدة، وكان في حالة الاجتماع معها في الإسلام من أهل نكاح الإماء، فأسلمت ثانية وهو موسر عند إسلامها، وأسلمت الثالثة وهو معسر خائف، وأسلمت الرابعة وهو موسر، قال أئمة المذهب: يعتبر حكمه مع كل أمة على الاستقلال؛ فإن حكم كل واحدة لا يتعلق بحكم غيرها، فإذاً يتخير بين الأولى والثالثة، ويندفع نكاح الثانية والرابعة؛ فإنه كان موسراً عند إسلام الثانية والرابعة. ورأيت في بعض التعاليق المعتمدة عن شيخي، أنه إذا حل له نكاح أمة، فأمة أخرى في معناها؛ والخِيَرة إليه فيهن، وكأنّ تجويز نكاح أمة يفتح عليه في جنس الإماء؛ إذ لا فرق بين أمة وأمة. وهذا وإن أمكن توجيهه، فليس معتداً به. والمذهب ما قدمناه. فرع: 8128- إذا نكح حرائر في الشرك، فأسلمت واحدة منهن، أو أربع، ومُتن، ثم أسلم الزوج بعدهن، وأسلمت البواقي، فأراد الزوج أن يختار الميتات، لم يكن له ذلك؛ فإن التي أسلمت وماتت قبل إسلام الزوج، قد فاتت، ولم تكن في حياتها في محل إمكان التعيين للزوجية. واللفظ الوجيز فيه: إنها لما ماتت، انتهت عدتها؛ فوقع إسلام الزوج وراء عدتها، والأسلام وراء العدة لا يفيد النكاح، والضابط في ذلك أن الزوج في تخلفه لو اختار المسلمة، كان اختياره باطلاً، كما سيأتي الشرح في أمثال ذلك، إن شاء الله عز وجل. وإذا كان الأمر كذلك، فإذا ماتت قبل إسلام الزوج، فقد فات أمرها، ولم يصادف إسلامُها حالة يتصور فيها إمساك الزوج إياها على حكم النكاح، ووقع إسلام الزوج وراء انتهاء عدتها بموتها، وإذا كانت لا تفرض منكوحة في حياتها، فاختيارها بعد موتها لا يُلحقها بالزوجات، حتى يتصور به التوريث منها بالزوجية. ووضوح ذلك يغني عن بسطه. فصل: قال: "ولو أسلم وأسلمت الإماء معه، وعتقن، وتخلفت حرة؛ وُقف نكاح الإماء... إلى آخره". 8129- هذا الفصل متصوَّر في حرّ نكح في الشرك حرّة وإماءً، ثم نفرض إسلامهن وإسلامه، وطريان العتق عليهن. والقول الضابط في الأصل تخريجه على الأصل الذي تقدم تمهيده، وهو: الرجوع إلى حالة الاجتماع في الإسلام. فإن كن عتيقات حالة الاجتماع، فقد التحقن بالحرائر في جميع الأحكام. وإن كن حالة الاجتماع في الإسلام رقيقات، فهن ملحقاتٌ بالإماء من كل وجه. وإن عتقن من بعدُ، فلا عبرة بعتقهن. ثم نعتبر حالة الاجتماع في الإسلام في اليسار ونقيضه، والخوف من العنت والأمن منه. هذا هو الضبط، وفيه كفاية. ولكنا نصوّر صوراً، ونفرض المسائل. 8130- فلو لم يكن فيهن حرة أصلية وكان معسراً، فأسلم، وأسلمن، ثم عتقن، فإن كان حالة الاجتماع من أهل نكاح الإماء، اختار واحدة منهن، كما لو بقين رقيقات، ولا أثر لما طرأ عليهن من العتق. وإن لم يكن حالة الاجتماع في الإسلام من أهل نكاح الإماء، لم يكن له أن يختار واحدة منهن، وإن كن حرائر حالة تقدير الإقدام على اختيارهن. ولو أسلم الزوج وعتَقَن في الشرك، ثم أسلمن، أو سبقن إلى الإسلام، وعتقن، ثم أسلم الزوج، أو عتقن في الشرك، ثم أسلم وأسلمن معاً، فقد كن في الصور التي ذكرناها حرائر في أول الاجتماع في الإسلام؛ فسبيلهن سبيل الحرائر الأصليات، فيتعين على الزوج نكاح أربع منهن إن بلغن هذا العدد. ولو أسلم وأسلمت واحدة، ثم عتقت بعد الإسلام، فلا أثر لعتقها. فلو أسلمت البواقي على الرق يخيّر الزوج بين التي عتقت قبلُ وبين البواقي اللواتي أسلمن على الرق؛ وذلك لأن الأُولى عَتَقَت بعد الاجتماع في الإسلام؛ فلم يكن لحصول الحرية بعد الاجتماع في الإسلام اعتبار أصلاً؛ طرداً للأصل الذي قدمناه. ولو أسلم الزوج وعتَقَت واحدة في الشرك، ثم أسلمت، فقد حصل الاجتماع في الإسلام وهي حرة، فلو أسلمت الإماء بعد ذلك على الرق، اندفع نكاحهن بالتي سبقت إلى الإسلام وكانت عتقت في الشرك. وتعينت تلك للنكاح. 8131- ومما يجب التأنق فيه: أن الأُولى إذا عتقت في الشرك وقد أسلم الزوج، ثم أسلمت، فقد ذكرنا أنها ملتحقة بالحرائر الأصليات، ولا نطلق القول بأن نكاح الإماء المتخلفات يندفع في الحال؛ فإنا نجوّز أن يعتقن في الشرك، ويُسلمن في العدة حرائر. ولو اتفق ذلك على هذا الترتيب، لكان يتخير فيهن، حتى إن زدن على أربع، اختار منهن أربعاً. وما أطلقناه في الفصول المتقدمة من أن من نكح في الشرك حرة وإماء، وأسلم، وأسلمت الحرة الأصلية، وتخلفت الإماء، فقد اندفع نكاحهن بالحرة، وتعينت الحرة، فذاك مفروض فيه إذا بقين رقيقات، وأسلمن كذلك على الرق، فلو عتقن- وقد سبقت الحرة بالإسلام، ثم أسلمن بعد العتق، فهن كالحرائر الأصليات؛ فللزوج أن يختار منهن أربعاً، ويندفع إذ ذاك نكاح الحرة السابقة بالإسلام. وإن اختار الأولى مع ثلاث من العتيقات، واستكمل العدد بهن؛ جاز. ولا تكاد تخفى هذه الصورة على من أحاط بالقواعد التي مهدناها. 8132- ولو كنّ إماء لا حرة فيهن، فعتقت واحدة منهن، وأسلمت، ثم أسلم الزوج مع بقاء الأخريات رقيقات، ثم أسلمن على الرق، تعيّنت الأولى للإمساك. وإذا فرضنا معهن حرة أصلية، انتظم الترتيب على ما تقدم. فلو أسلم وأسلمت الإماء، وتخلفت الحرة، فلا يختار واحدة من الإماء، ما دامت الحرة متخلفة، ومدة العدة باقية. فلو أسلمت قبل انقضاء عدتها من يوم إسلام الزوج، تعيّنت، وانفسخ نكاحهن. ولو ماتت في الشرك أو أصرت على شركها، حتى انقضت عدتها، اختار واحدة من الإماء. 8133- ولو اختار واحدة منهن قبل وقوع اليأس عن الحرة، ثم ماتت الحرة، أو أصرت على كفرها حتى انقضت عدتها، فما حكم ذلك الاختيار الذي جرى في حال تخلف الحرة؟ نقل المزني في جواب المسألة ما نذكره، قال: "يثبت". يعني التي اختارها؛ فإنا تبيّنّا آخراً أن نكاح الحرة المتخلفة كان زائلاً في وقت اختياره الأمة. فاختلف أصحابنا: فمنهم من غلّط المزني، وقال: إنه أجاب في المسألة على أصله؛ فإنه يجوّز وقف العقود. وقد قال من بعدُ: إذا أسلم الزوج وتخلّفت امرأته، فنكح الزوج بعد الإسلام أختها، قال: فالنكاح بعدُ موقوف على ما يتبين من حال المتخلفة، فإن أسلمت، بان أن النكاح لم ينعقد على أختها، وإن بقيت على التخلف؛ بان أنه انعقد العقد على أختها. ومذهب الشافعي أن النكاح الذي أورده على الأخت باطل، وإن تخلفت المشركة إلى انقضاء العدة وماتت في الشرك، كذلك مذهب الشافعي أن الاختيار السابق في الأمة في حال تخلف الحرة باطل؛ لأنه على التردد والوقف، والاختيار لا يقبله، كما لا يقبله العقد على الأخت، فلابد إذاً بعد تبيّن الأمر واندفاع الحرة بالإصرار والموت على الشرك- من اختيارٍ جديد. وليس هذا معنى عندنا؛ فإن اختلاف قول الشافعي في وقف النكاح وغيره من العقود-في مثل هذه الصورة التي ذكرناها- معروف. وقد ذكرنا صور الوقف في كتابِ البيع. ونحن نعيد منه مقدار الحاجة. فمن عقد عقداً من نكاح أو بيع بناه على تقديرٍ، وظاهرُ الأمر بخلافه، مثل أن يبيع مال أبيه، أو يزوج إماءه، فالظاهر أنّه متصرف في ملك غيره، فلو تبين أن أباه كان ميتاً في تلك الحالة، وأنه ورّثه ما تصرف فيه، ففي نفوذ العقود قولان، لم ينكرهما أئمة المذهب في الطرق. والصورة الأخرى في الطرق: أن يبيع الإنسان مال غيره بغير إذنه، أو يزوّج جاريته كذلك من غير إذنه؛ فالذي قطع به العراقيون أن البيع والنكاح فاسدان، لا ينعقدان موقوفَين على إجازة المالك. وهذا موضع خلاف أبي حنيفة. وحكى المراوزة قولاً في وقف العقد على الإذن، مثل مذهب أبي حنيفة. وهذا القول على الحقيقة ليس يلائمه مذهبُ الشافعي وقياسُه. فإذا بان ذلك، فالاختيار ونكاح الأخت في الصورتين المتقدمتين يناظران التصرف الذي يجري في عقده على الوقف قولان باتفاق الطرق. 8134- والذي يتطرق إليه من السؤال أن نصوص الشافعي في الجديد تميل إلى منع الوقف. وما ينقله المزني-إذا أطلقه- محمول على النصوص الجديدة، فإن أراد نقل شيء عن القديم صرّح به، ولا ينبغي أن يُغلَّط بتركه نسبةَ قول إلى القديم، فقد اتفق له مثل ذلك كثيراً في السواد، من غير تعرض لذكر القديم. وقد ذكر بعض الأصحاب طريقةً حسنة فيما أشرنا إليه من ترتيب القديم والجديد، فقال: مسلك الاختيار في صورة الوقف يخرّج على أصلٍ تقدم، وهو أن الاختيارَ غير مشبه بابتداء العقد، وهو على حكم الإمساك؛ فيحتَمِل أن نُجري فيه قولين في الجديد، فمعوّل المزني على أحدهما؛ فإن الاختيار-وإن لم يكن قابلاً للتعليق بالأغرار والأخطار- فإذا نُجِّزت صيغته لا يمتنع أن يُحَط عن مرتبة العقود، ويقضى بقبوله للوقف. وإن نزّلنا الاختيار منزلة ابتداء النكاح، فيبعد حينئذ على قياس الجديد تصحيحه على حكم الوقف، ويجوز أن يكون كمسألة نكاح الأخت من الذي أسلم وزوجته متخلفة. فإن قيل: ألستم زيّفتم ترديد القول في أن الاختيار هل ينزّل منزلة ابتداء العقد؟ قلنا: لسنا ننكر كلام الأصحاب. والذي نجريه مباحثاتٌ عن المعاني مع الوفاء بالنقل، ثم حملنا ما قاله الأصحاب على مسائل الإماء، ونحن الآن فيها نضطرب، فليس يبعد ترديد الرأي فيه على هذا النسق. وقد أكثر الأصحاب في الكلام على ما نقله المزني، وأتَوْا فيه بما لا يُحتاج إليه. والمقدار الذي ذكرناه أوقع وأدل على الغرض من جميع ما أتَوْا به. فصل: قال: "ولو كان عبدٌ عنده إماء، وحرائر مسلمات وكتابيات ووثنيات... إلى آخره". 8135- إذا نكح العبد في الشرك إماءً، وحرائر: وثنيات وكتابيات، ثم أسلم وأسلمت الإماء، والوثنيات ولم يخترن فراقه، فله أن يمسك اثنتين: إن شاء أمتين، وإن شاء حرتين مسلمتين، وإن شاء كتابيتين، وإن شاء حرة وأمة، وإن شاء كتابية وأمة؛ لأن الكتابية بمنزلة المسلمة في النكاح، والأمة بمنزلة الحرة في حق العبد. ثم إن الشافعي شرط في إمساكه اثنتين منهن ألا يخترن فراقه، وعطف ذلك على الإماء والحرائر؛ فاقتضى ظاهر الكلام أن الحرة إذا أسلمت وزوجها العبد؛ فلها الخيار، كما يثبت الخيار للأمة إذا أعتقت تحت زوجها القنّ. وقد اختلف الأصحاب في تنزيل المسألة: فمنهم من قال: ذكر الشافعي الإماء يَعْتِقن والحرائر، وذكر الخيار؛ فرجع جوابه فيه إلى الإماء. وهذا قد يسوغ في نظم الكلام. والذي أراه أن هذا الفن لا مساغ له؛ وإنما يعتاد الفقهاءُ إطلاقَه، وهو غير سائغ في نظم الكلام. ولفظ الشافعي: "ولو كان عبد عنده إماءٌ، وحرائر مسلمات ووثنيات وكتابيات، ثُم أسلم وأسلمن ولم يخترن فراقه، أمسك اثنتين". وقطعُ الاختيار عن اللواتي ذكرن آخراً- وهن الكتابيات، وردُّه إلى الإماء المذكورات في صدر الكلام غيرُ منتظم، ولا يمكن حمل الكتابيات على الإماء؛ فإن العبد المسلم لا يحل له نكاح الأمة الكتابية على النص. ثم الكلام مع ذلك لا يتسق؛ فإنه أفرد الإماء بالذكر أولاً، ثم أخذ في ذكر الحرائر وقسمهن مسلمات ووثنيات وكتابيات. فهذا ما يتعلق بظاهر (السواد). والمذهب أن الإماء إذا أعتقن، فلا شك أنه يثبت لهن الخيار تحت العبد. فأما إذا أسلم العبد وتحته حرائر، فأسلمن أو كن كتابيات، فقد ظهر اختلاف أصحابنا: فذهب بعضهم إلى أنه لا خيار للحرة. وهذا هو المذهب والقياس؛ لأنها رضيت برقّه لدى العقد، فلا خيار لها من بعدُ. ومن أصحابنا من قال: لها الخيار إذا اتصل نكاح الشرك بالإسلام، وذلك لأن للرق نقائص يظهرها الإسلام، فتصير الحرة عند اتصال عقد الشرك بالإسلام بمثابة الأمة تعتق تحت زوجها العبد. وهذا تمويه لا حاصل له. والوجه في قياس المذهب نفيُ خيار الحرة، ويبقى مع ذلك إشكال لفظ المختصر. فصل: قال: "ولو عتقن قبل إسلامه، فاخترن فراقه، كان لهن ذلك... إلى آخره". 8136- صورة المسألة: عبد نكح في الشرك أمة، ثم أسلم، وعتقت الأمة، ثم أسلمت، فالمسألة لها أطراف، ولابد فيها من تقسيمٍ ضابط. فنقول: لا يخلو- إما أن تسلم هي وتعتق والزوج متخلف، أو يسلم الزوج وعتقت هي وهي متخلفة. فإن سبقت إلى الإسلام، وجرى العتق، والزوج متخلف؛ فلا يخلو وقد سبقت بالإسلام وجرى العتق؛ إما أن يتقدم عتقها على إسلامها، أو إسلامها على عتقها. فإن أسلمت أولاً، ثم عتَقَت والزوج متخلف، فلها ثلاثة أحوال: إما أن تختار المقام، وإما أن تختار الفسخ، وإما أن تتوقف. فإن اختارت المقام، بطل اختيارها ولغا؛ من جهة أن إقامتها تحت كافر غيرُ سائغ؛ وأيضاًً فإنها جارية إلى البينونة لو فرض إصرار الزوج، فإنا نتبين أن النكاح ارتفع باختلاف الدين، والاختيارُ تعيين خصلة من غير تردد، وأثر بطلان اختيارها الإقامةَ ظاهرٌ؛ فإنها لو اختارت الإقامة، ثم اختارت بعدها الفسخ، كان لها ذلك. فأما إن اختارت الفسخ، فإنه ينفذ فسخها، ونحكم بارتفاع النكاح في الحال، وجريانُها إلى البينونة، غير مناف للقطع بارتفاع النكاح في الحال؛ فإن ما تجرى إليه من البينونة يلائم قصدَها في الفسخ، وليس كما لو اختارت الإقامة؛ فإن الإقامة تنافي الجريان إلى البينونة، ثم إنها تستفيد بتنجيز الفسخ قطعَ تطويلٍ موهوم، لأن الزوج ربما يسلم في آخر جزء من العدة، فتحتاج إلى أن تختار الفسخ عند إسلامه إذا كانت تبغي الفسخ، ثم تستقبل العدة من وقت الفسخ؛ فيطول عليها أمد التربص، وإذا نجّزت الفسخَ في أوائل العتق مثلاً، استقبلت العدة. فإن لم يسلم الزوج، تبيّنّا انفساخ النكاح عند انقضاء العدة، وهي محتسبة من وقت اختلاف الدين. وإن أسلم الزوج في العدة، تبيّنّا نفوذ فسخها وشروعها في العدة على أثر الفسخ. وهذا متفق عليه بين الأصحاب. وفيه دقيقة يجب التنبه لها، وهي: أن الفسخ الذي تُنشئه متردد في ظاهر الأمر بين أن ينفذ وبين أن لا ينفذ؛ من جهة أن الزوج لو أصر حتى انقضت العدة، تبيّنّا أن الفسخ لم ينفذ، وأنها بانت من وقت إسلامها وتخلفِ الزوج عنها، ولكن هذا النوع من التردد لم يُثر خلافاً بين الأصحاب مأخوذاً من الوقف. والسببُ فيه أن الوجه الذي يقدّر فيه عدم نفوذ الفسخ تنفذ البينونة بدلاً عن الفسخ، وقد يجري مثل هذا في الوقف في العقود. ولو أرادت أن تتوقف، فلا تفسخ ولا تختار، فلها ذلك. وإن كان القول الأصح أن خيار المعتقة تحت زوجها العبد على الفور، والسببُ فيه أنها ترتقب الجريان إلى البينونة تبيّناً، وإذا كان كذلك، فليس في تأخيرها الفسخ ما يشعر بالرضا بالإقامة، وكيف يقدر ذلك، ولو صرحت بالرضا بالإقامة، لم يكن لرضاها حكم، وإذا كان لا يصح اختيار الإقامة، فلا وجه إلا القطع ببقاء حقها في الفسخ. 8137- وقد قال الأصحاب: العبد إذا طلق زوجته الأمة طلقة رجعية، فَعَتَقت في خلال العدة، فلها أن تختار الفسخ؛ فإنها زوجته، ولها أن تؤخر الاختيار إلى أن تتبين الزوج هل يراجعها أم لا؟ من جهة أنها جارية إلى تقدير البينونة لو فُرض من الزوج تركُها، حتى تتسرح بانقضاء العدة، فهي غير منسوبة إلى إرادة الإقامة مع توقعها البينونة. ولو اختارت الإقامة؛ فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من قال: يلغو اختيارها. وهذا اختيار قاضينا الحسين. وهي مشبهة بالمسألة المقدمة في اختيار المسلمة إذا أعتقت الأمة والزوج عبد متخلف. والفقه أن الرجعية محرمة، فلا يكون اختيارها للإقامة اختيار حِلٍّ ناجز، ولا يرتفع باختيارها أيضاً توقعُ البينونة. وذهب بعض أصحابنا إلى أن اختيارها للإقامة يصح، ويفيد ردَّ الأمر إلى رأي الزوج، حتى إن راجعها، انقلبت إلى صلب النكاح. وهذا القائل يفصل بين الرجعية وبين العتيقة المسلمة وزوجها عبد كافر، فيقول: رضا الرجعية بالإقامة محمول على إثباتها للزوج سلطانَ الرجعة إن أرادها، ولا امتناع في ثبوت رجعة على رجعية، وأما الإقامة تحت كافر من مسلمة، فلا مساغ لها. فإن قيل: لو نفذنا رضاها، لكان يفيد تفويض الأمر إلى الزوج، فإن أسلم، استقر النكاح، وإن أصر، تثبت البينونة. قلنا: ليس الإسلام أمراً يناط بالاختيار، وليس هو من التصرفات في النكاح، فالرجعية تُثبت للزوج سلطاناً في النكاح إذا رضيت بالإقامة، والمسلمة لو نفذ رضاها تقديراً، لم يُفد نفوذُه للزوج تصرفاً في النكاح. 8138- فإذا تبيّن أن للمرأة المسلمة تحت العبد الكافر أن تؤخّر الاختيار إلى أن تتبين حال الزوج، فإن أخرت، فلا يخلو الزوج: إما أن يسلم في العدة، أو يبقى على التخلف حتى انقضت العدة، فإن أسلم، فلها أن تختار الفسخ، فإن فسخت، نفذ فسخها، وصادف محرماً، واستقبلت عدةَ حرةٍ من وقت فسخها؛ فإن الفراق بالفسخ يقع، وقد زال ما كنّا نتوقع من البينونة باختلاف الدين، ولما أنشأت الفسخ كانت حرة، فاستقبلت عدة الحرائر. 8139- والرجعية لو عتقت في خلال العدة، فراجعها زوجها، فاختارت الفسخ بعد المراجعة، فإنها تستقبل عدة حرة أو تبني على العدة التي كانت فيها؟ وكيف السبيل في ذلك؟ ولو أنشأت الفسخ في العدة من غير فرض رجعة، فللشافعي قولٌ: إنها تبني على عدة الإماء، ولا تستأنف عدةً أخرى، فالقول في ذلك يترتب. فإذا طلّق الرجل زوجته طلقة رجعية وجرت في العدة، ثم أتبع الطلاق طلاقاً رجعياً؛ فالأصح أنها تتمادى على العدة الأولى، ولا تستفتح عدةً جديدة. وللشافعي قول: إنها تستفتح عدة جديدة، وسيأتي التوجيه في كتاب العدّة. ولو طلق الرجعية بائناً وحرَّمها، فخروج قول استئناف العدة في هذه الصورة أوجَه؛ لأن البينونة قطعت عصام الرجعة؛ فكان ورودها على الرجعية في قطع الرجعة بمثابة ورود الطلاق الأول على الزوجة في قطع الحِلّ. وإذا عتَقَت الرجعية، وفسخت النكاح، فاستفتاح العدة في هذه الصورة أوجَه؛ من جهة أن الفسخ ضربٌ آخر من البينونة، وهو مخالف لجنس الطلاق وحكمِه. وبالجملة: ليست الرجعية في مراتبها بمثابة المسلمة إذا أسلم زوجها المتخلف؛ فإنا نتبين أنها ما كانت في العدة، وأن الذي كنا نقدره عدة لم يكن عدة؛ فهذه حرة ورد فسخها على صلب النكاح، ولم تقدِّم على فسخها عدة. ولو طلّق الرجل زوجته طلقة رجعية، ثم راجعها، وطلقها طلقة أخرى، فتستفتح عدةً، أم تبني على بقية العدة التي كانت؟ فيها اختلاف قول سيأتي مشروحاً-إن شاء الله تعالى- في كتاب العدة. فإن قلنا: إنها تفتتح عدةَ حرة على أثر الطلاق الثاني، فإذا عتَقَت الرجعية تحت زوجها العبد، فارتجعها الزوج وفسخت، فلا شك أنها تستفتح عدة. وإن قلنا: الرجعية إذا طُلّقت، اكتفت ببقية العدة- فإذا فسخت، فهل تكتفي ببقبة العدة أم تستأنف؟ فيها اختلاف؛ من جهة أن الفسخ أولى باستئناف العدة من الطلاق، لما نبهنا عليه في ذكر المراتب. هذا إذا أسلم الزوج ففسخت. 8140- وإن أسلم الزوج في مدة العدة فأقامت، لا يخفى حكمه. 8141- وإن بقي الزوج على التخلف حتى انقضت العدة، تحسب من وقت إسلامها، ثم طرأ العتق، فتتم عدة الحرائر لطريان الحرية، أم تكتفي بعدّة الإماء ويقال لا أثر لطريان العتق؟ نقدم على هذا أصلاً على إيجاز، ونحيل استقصاءه على كتابه، فنقول: الأمة الرجعية إذا عتَقَت في أثناء العدة، فالمنصوص عليه في الجديد: إنها تكمل عدة الحرائر، وفي القديم قولان. ولو كانت الأمة في عدة البينونة، فعتَقَت، فالمنصوص عليه في القديم: إنها تعتد عدة الإماء، وفي الجديد قولان. فإذا ظهر ذلك، فقد اختلف أصحابنا في أن الأمة إذا أسلمت، فتخلّف زوجها، فعتَقت، فكيف الترتيب فيها؟ فمن أصحابنا من قال: هي كالرجعية؛ من جهة أن الزوج مهما أسلم، ثبت النكاح، وذلك إلى إيثاره واختياره، كما أن الرجعة إلى اختيار الزوج. ومن أصحابنا من قال: ترتيب المذهب في طريان العتق على عدة اختلاف الدين، كترتيب المذهب في طريان العتق على عدة البينونة؛ من جهة أن عدة الرجعة إذا انقضت، لم تنعكس عليها البينونة تبيّناً، وإنما تتبين مع انقضاء العدة، وإذا انقضى أمد عدة اختلاف الدين، تبيّنا أن البينونة حصلت في ابتداء العدة، ووقعت العدة بعد البينونة، فيجب إلحاقها في ترتيب المذهب بالبائنات. ومما نجريه في أقسام الكلام: أن الأمة إذا أعتقت وزوجها متخلف رقيق، فلو اختارت الفسخ، فلا يخلو: إما أن يسلم، أو يبقى على التخلف، فإن أسلم، بان أن الفراق وقع من يوم اختيارها الفسخ، وعليها عدة حرة؛ لأنها وجبت وهي حرة، وبان أن ما كنا نقدره عدة اختلاف الدين لم تكن عدة؛ فتستقبل عدةً كاملة. وإن بقي الزوج على التخلف، فالعدة من يوم الإسلام، والبينونة وقعت بالإسلام، والفسخ مردود؛ فإنه مسبوق بالبينونة المترتبة على اختلاف الدين، فهذه وإن فسخت، فكأنها لم تفسخ، فليس عليها استئناف عدة، بخلاف الرجعية إذا عتقت في خلال العدة، واختارت الفسخ؛ فإن فسخ الرجعية ينفذ على كل حال من غير توقف، وفسخ هذه التي عتقت بعد اختلاف الدين موقوف؛ فإذاً لا استئنافَ، وعدتها عدة الإماء أو عدة الحرائر؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه. وهذا كله إذا تخلف الزوج، فأسلمت هي وعتقت. وقد بانت الأقسام، وثبتت الأصول، فإن أغفلنا شيئاً، فما ذكرناه مُرشد إليه ودال عليه. 8142- فأما إذا أسلم الزوج وتخلفت الأمة، وعتقت، فلا تختار الإقامة؛ فإن الإقامة غير ممكنة مع كفرها، ولو أخّرت الفسخ، فلا شك أن لها ذلك، فلو أسلمت في العدة واختارت الفسخ، نفذ فسخها، وتعتد عدة الحرة من يوم الفسخ. وإن لم تسلم، وبانت باختلاف الدين، فحكم العدة على ما ذكرنا، غير أن الظاهر هاهنا إلحاقها بترتيب البائنة إذا أعتقت؛ لأن الزوج ليس إليه شيء إذا كانت هي المتخلفة. ولو فسخت في الكفر أو اختارت المقام، فظاهر نص الشافعي أنه لا يصح منها واحد منهما. فمن أصحابنا من قال بذلك، وعلّل بأن قال: أما اختيار المقام، فلا يلائم حالها؛ فإنها جارية في البينونة، وهي أمة كافرة لا تقر تحت مسلم. وأما اختيار الفسخ، فلا ينفذ أيضاًً، لأن فسخ النكاح بحكم العتق من قضايا الإسلام، وليس لها أن تعمل بأحكام الإسلام وتستوجب حقوقها بموجب دين لا تعتقده؛ ولأن الإسلام بيدها، فلتسلم، ثم لها أن تختار الفسخ، وليس كما لو أسلمت وعتقت وتخلف الزوج؛ فإن لها الفسخ لما تقدم تقريره؛ فإنها التزمت الإسلام، وعملت بموجبه، وإسلام الزوج ليس بيدها. وقال صاحب التقريب: لها أن تختار الفسخَ والمقام جميعاً. هكذا حكاه بعض الأئمة عنه، ولم أره في طريقته. وهو على نهاية السقوط في اختيار الإقامة؛ فإنا إذا لم نصحح من المسلمة اختيار الإقامة، فيجب ألا نصحح من الكافرة أيضاًً اختيار الإقامة. وذهب بعض أصحابنا إلى أن لها أن تختار الفراق دون المقام، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، قياساً على المسلمة، وما ذكره الأولون من أنها لا تفسخ بحكم الإسلام مردودٌ؛ فإنا نحكم للكفار وعليهم بحكم الاسلام. فصل: قال: "ولو اجتمع إسلامه وإسلامهن، وهن إماء، ثم عتقن، واخترن فراقه، لم يكن ذلك لهن، إذا أتى عليهن أقل أوقات الدنيا... إلى آخره". 8143- هذه المسألة ليست من مسألة نكاح المشركات، ولكن صوّر الشافعي إسلام العبد والإماء معاً، ثم قدر نكاح من يثبت نكاحه منهن، ثم صوّر عتقاً تحت عبد، وفرّع على أن خيار المعتقة على الفور، ثم عبّر عن الفور بعبارة فيها مبالغة؛ حيث قال: إذا مر عليها أقل أوقات الدنيا، فلم تفسخ، بطل نكاحها. واعترض المزني على هذا، وضرب الأمثلة. والقول القاطع فيه أن المعنيَّ بالفور في خيارها-إذا فرّعنا على الفور- كالمعنيّ بالفور إذا ردّ بالعيب. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع؛ فلست للإطناب في مثل هذا. فصل: قال: "ولو اجتمع إسلامه وإسلامهن، ثم عتقن، اختار حُرتين في العدة... إلى آخره". 8144- قد اشتمل الباب على فصولٍ، فوقع الاعتناء في أوائلها بالحر يسلم على حرائر، ثم تلاه التفصيل في الحر يسلم على إماء يبقَيْن على الرق، ثم اتصل بحكمهن التفصيلُ في الإماء يعتِقن وزوجهن حر، وجرى بعد ذلك القول في العبيد يسلمون على إماء، واتصل به عتقهن تحت العبيد، وما يثبت لهن من الخيار، وبيان اختيارهن للفسخ والإجازة، والتفَّ بذلك أحكام العدة، واتصل القول في صنفين: أحدهما: استفتاح العدة. والثاني: في إكمال عدة الحرائر أو البناء على عدة الإماء. 8145- وهذا الفصل من بقايا أحكام العبد يُسْلِم على نسوة. والغرض منه يحويه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يسلم العبد على إماء منفردات. والثاني: أن يكن حرائر منفردات. والثالث: أن يكن حرائر وإماء. فإن أسلم وتحته إماء منفردات، فأسلمن معه، أو أسلمن قبل إسلامه، أو بعد إسلامه-الكل في العدة- فللعبد أن يختار اثنتين منهن، فلا يُرعى في حقه خوف العنت، ولا يلزمه الاقتصار على واحدة، بخلاف حكمنا في الحر؛ فإن الإماء في حق العبد بمثابة الحرائر في حق الحر، فلو كان تحته أربع إماء، فأسلمت ثنتان، ثم أسلم العبد قبل تَقضِّي عدتهما- وابتداء العدة محسوب من يوم إسلامهما؛ فإن سبب الفراق اختلاف الدين، وذلك يحصل بالإسلام والتخلف، فلما أسلمتا وتخلف العبد، حصل بإسلامهما صورة الاختلاف، فكان ابتداء مدة العدة من وقت إسلامهما، ثم إذا اتفق إسلام العبد قبل انقضاء زمان عدتهما، فلو أسلمت الأخريان قبل تقضّي عدتهما وعدتهما محسوبة من يوم إسلام العبد؛ فإن الاختلاف في الدين معهما حصل بإسلامه. فنقول: للعبد أن يختار الأوليين، أو الأخريَيْن، أو واحدة من الأُوليين؛ وواحدة من الأُخْريين؛ لما سبق تمهيده من أن الإماء في حق العبد بمثابة الحرائر في حق الحر، غير أن أقصى عدد العبيد في الزوجات-حرائر كن أو إماء- ثنتان. ولو أسلم العبد وأسلمن، فحصل الاجتماع في الإسلام على الرق، ثم عتق وعتقن، فلا حكم لهذا العتق، والحكم كما إذا لم يعتِقن، فيختار منهن ثنتين؛ لأن تغير الحال من الرق إلى الحرية حصل بعد الاجتماع في الإسلام، وقد ذكرنا أن ما يحدث بعد الاجتماع في الإسلام لا معتبر به، ولا معوّل عليه. ولو عتق العبد وعتقن في الشرك، ثم أسلم وأسلمن؛ فله أن يختار أربعاً منهن؛ لأنه حصل الاجتماع في الإسلام وهو حر وهن حرائر، فلا ننظر إلى ما تقدم، ونعتبر حالة الاجتماع في الإسلام، وهذا أصل يطّرد ولا يتناقض في أحكام الرق والحرية، وهو اعتبار حالة الاجتماع في الإسلام. وكذلك لو أسلمن، وتخلف الزوج، ثم عتق في الشرك، وعتقن في الإسلام، ثم أسلم، وكذلك لو أسلم وعتق، وعتقن في الشرك ثم أسلمن، فمهما كان حراً وكن حرائر حالة الاجتماع في الإسلام، فالحكم ما ذكرناه. 8146- ولو عتق العبد، ثم أسلم وأسلمن وهن رقيقات، فليس له أن يختار إلا واحدة منهن، على شرط أن يكون عادماً للطَّوْل خائفاً من العنت، نظراً إلى حالة الاجتماع في الإسلام، وقد كان فيه حراً، فيجعل كما لو لم يزل حراً وكن إماء، فالتحق هذا بما لو نكح الحر في الشرك إماء، فإن كان على شرط نكاح الإماء، اختار منهن واحدة. وكذلك لو أسلمن وهو في الشرك، ثم أسلم، فلا يختار إلا واحدة. وكل ذلك يندرج تحت اعتبار حالة الاجتماع في الإسلام. 8147- ولو أسلم العبد وأسلمت واحدة منهن، وعتق العبد، ثم أسلمت البواقي، فقد حُكي عن القاضي أنه يختار الأُولى، وهي متعينة للزوجية في هذه الصورة، حتى لا يجوز له إمساك أخرى من البواقي. قال: وذلك بخلاف الحر إذا كان تحته إماء، فأسلم الحر، وأسلمت الإماء على الترتيب- واحدة واحدة؛ فلا تتعين الأُولى للإمساك، بل له أن يمسك أيتهن شاء. هذا كلام القاضي. والأصحابُ بجملتهم على مخالفته، وهو هفوة منه لا يستريب فيها فقيه؛ وذلك لأنه لما عَتق بعد الاجتماع مع الأولى في الإسلام، فعتقه الطارىء لا يثبت له درجة تزيد على درجة الحر الأصلي، ولا شك أن الأُولى لا تتعيّن في حق الحر الأصلي. ولو عتق العبد أولاً، ثم أسلم، لم تتعين الأولى، وأي فرق بين أن يعتق قبل الإسلام أو يعتق بعد الإسلام؟ فلا ينبغي أن يشك الفقيه فيما ذكرناه. ولو أسلم وأسلمت ثنتان، ثم عتق، ثم أسلمت الأخريان؛ فقد قال القاضي في هذه الصورة: له أن يختار ثنتين: إما الأوليين، وإما الأُخريين، وإما واحدة من الأوليين وواحدة من الأُخْريَين، واعتلّ بأن قال: تغيّرُ الحال بعد استيفاء عدد العبودية لم يتغير به الحكم، بخلاف ما لو عتق بعد إسلامه وإسلام واحدة. وهذا خبطٌ لا تعويل على مثله، ولا ينبغي الآن أن نفرع على عثرات الأئمة. 8148- فإن قيل: إذا أسلم العبد وأسلمت الإماء، ثم عتق وعتقن بعد الاجتماع في الإسلام، فقد قلتم: لا يختار منهن أكثر من ثنتين، وينفسخ نكاح البواقي، وله أن يبتدىء نكاح الأخرييْن منهن أو نكاح ثنتين سواهن، فلا معنى للحكم بانفساخ النكاح مع التسليط على أن يبتدئه بعده؟ قلنا: لما حصل الاجتماع في الإسلام على الرق؛ فقد دفع الشرع نكاح اثنتين، وقرر نكاح اثنتين، والانفساخ لا يتوقف على الاختيار، وإنما يُعين المختارُ نكاحاً تقدم ثبوته، وفسخاً تقدم نفُوذُهُ، فإذا كان كذلك، فقد جرى الانفساخ في حالة الرق، والجاري حالة الاختيار تعيين لما كان واقعاً قبلُ على طريق التبيّن. والدليل عليه: أنه لو تقدم اجتماع في الإسلام بين الزوج ونسوة، ثم إنهن مُتن، وأسلمت البواقي؛ فللزوج أن يختار الميّتات، مع العلم بأن الميتة غير قابلة لابتداء النكاح، ولكن الاختيار تبيُّنٌ، كما قدمناه. وكذلك لو أسلم الحر مع إماء، وكان حالة الاجتماع على شرط نكاح الإماء، ثم أيسر من بعدُ؛ فله أن يختار نكاح أمة وإن لم يكن حالة الاختيار ممن يجوز له نكاح الإماء؛ فإن الأمر مستند إلى حالة الاجتماع في الإسلام. وهذا واضح متمهّد. ثم ضرب الأصحاب في ذلك أمثالاً من الكتب لا حاجة إليها؛ فإن المعنى الذي ذكرناه مستقل كامل، غيرَ أنهم قالوا: لا يمتنع أن يُمنع الشخص من استدامة ما يجوز له ابتداؤه، وهذا بمثابة ما لو اصطاد المحرِم صيداً، واستدام اليد عليه ثم تحلل ويده قائمة دائمة على الصيد، فعليه رفع يده، وإن كان يجوز له أن يصطاده ابتداء في حالة التحلل، ولكن لما استندت يده إلى اعتدائه السابق، قلنا: عليه إزالة هذه اليد. وإن كان لا يمتنع عليه إثبات مثلها. ولو غسل المتوضّىء إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف؛ فإنه لا يمسح إذا أحدث؛ لأنه ابتدأ، فلبس الخف الأول قبل تمام الطهارة، فإن أراد التسبّب إلى المسح، فلينزع الرجل الأولى، وليُعدْها، كما تقرر في موضعه، وهذا مُغنٍ بوضوحه عن الإبعاد في الاستشهاد. وكل ما ذكرناه فيه إذا كان تحت العبد إماء منفردات. 8149- فلو كان تحته حرائر منفردات، فلا يخفى تفصيل المذهب؛ فإن الحرائر في حق العبد كالإماء، فيتخير منهن اثنتين إذا أسلم وأسلمن معه. 8150- ولو أسلم وأسلمت اثنتان ثم عتق، ثم أسلمت الأخريان، قال الأئمةُ أجمعون: له أن يمسك اثنتين من غير مزيد، واعتلوا بأن قالوا: عِتْقُهُ وقع بعد استيفاء عدد العبودية. ولو أسلم وأسلمت واحدة، وعتق العبد، ثم أسلمت البواقي؛ فله أن يُمسك أربعاً، لأن عتقه وقع قبل استيفاء عدد العبيد. واستشهد الأصحاب على هذا فقالوا: العبد إذا طلق امرأته طلقةً، ثم عتق؛ فإنه يملك طلقتين أُخريين تتمة الثلاث. ولو طلق امرأته طلقتين، ثم عتق، لم يملك الثالثة؛ لأنه استوفى عدد العبودية في حالة العتق، ولم يؤثّر طريان الحرية من بعد. وكذلك الأمة إذا أعتقت في خلال العدة قبل استكمال قرأين؛ فإنها-على قولٍ- تكمل ثلاثة أقراء، ولو عتقت بعد استكمال القرأين، لم يلزمها القرء الثالث. والأمة إذا عتقت في أثناء ليلتها في القَسْم؛ فالزوج يكمل لها ليلتين فيلحقها بالحرة، ولو عتقت بعد مضي ليلتها، لم يزدها الزوج في هذه النوْبة على قَسْم الإماء، على ما سيأتي تفصيل ذلك في كتابه، إن شاء الله عز وجل. 8151- وفرّع ابن الحداد مسألة على هذه القاعدة، فقال: الذمي إذا طلق امرأته طلقةً واحدةً، ثم نقض العهد، والتحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وضرب صاحبُ الأمر عليه رقاً، فأراد أن ينكح تلك التي طلقها في حالة الحرية قبل نقض العهد؛ فإذا نكحها، فهو على طلقة واحدة منها، فإنه الآن رقيق، والطلاق الأول محسوب، فألحقناه برقيقٍ استوفى طلقة، وبقيت له طلقة. وبمثله لو طلق الذمي زوجته طلقتين ثم طرأ ما وصفناه من النقض والالتحاق والوقوع في الأسر وجريان الرق، ثم أراد أن ينكح تلك المطلقة، فله أن ينكحها على طلقة ثالثة، والسبب فيه أنه لما طلق امرأته طلقتين في حال الحرية، لم نحكم بوقوع الحرمة الكبرى المُحْوِجة إلى التحليل، فإذا طرأ بعد ذلك الأحوالُ التي وصفناها، فلا نُحدث تحريماً لم يتقدم، ويجوز النكاح، ثم لا يخلو نكاح عن طلقة. وهذا الذي ذكره ابن الحداد على التحقيق ناشىء من الأصل الذي مهدناه، وليس يخالفه في المعنى. وذكر الأصحاب في ذلك عبارة ضابطة، فقالوا: الجامع للمسائل أن نقول: إذا تغير الحال بعد جريان الحكم، وهناك أصل باق في حق المغيّر، فالمغير الطارىء يؤثر- إما بالزيادة وإما بالنقصان على ما يقتضيه الحال؛ لأن المغير يجد أصلاً يتشبث به، و يستند إليه ويعمل فيه. فإذا طرأ الطارىء، وليس ثَمَّ أصلٌ باق، لم يؤثر المغيّر، ولم تظهر فائدة، وعلى هذا تخريج المسائل. فإذا عَتَقَ العبد بعد إسلامه وإسلام واحدة من الحرائر، ثم عتق البواقي، فإنه يختار أربعاً؛ لأن الحرية طرأت وهناك أصل باق. ولو عتق بعد إسلامه وإسلام حرتين، لم يمسك إلا اثنتين؛ لأن المغيّر الطارىء لم يصادف أصلاً يعمل فيه بعد تمام عدد العبد. وكذلك العبد إذا عتق بعد استيفاء طلقتين، لم يملك الثالثة، لأن العتق لم يطرأ على أصل باق له في الطلاق، وإن عتق بعد استيفاء طلقة، ملك بعدها طلقتين؛ لأن الحرية وردت مع بقاء أصل، وعلى هذا يخرّج أمر العدة. وكذلك القول في مسألة ابن الحداد في الذمِّي؛ لأنه إذا طلق طلقتين، ثم طرأ الرق، لم يبق في قياس العبيد عدد بعد الطلقتين حتى يؤثر طريان الرق؛ فسقط أثر الرق الطارىء، وإذا كان طلقها طلقةً واحدة وأثّر الرق الطارىء في الرد إلى طلقتين فتحسب منهما الأولى، فقد جرت هذه المسائل على الضبط الذي ذكرناه نفياً وإثباتاً، فهذا ما ذكره الأصحاب. 8152- ووراء ذلك مباحثة في المعنى، بها تمام البيان، فنقول: المسائل التي الاستشهاد بها-نظيرَ المسألة التي نحن فيها- قد تنفصل في نظر الفقيه عن هذه المسألة، وبيان ذلك: أنَّ العبد إذا طلق امرأته طلقتين، فقد وقع الحكم بالتحريم الذي يتوقف ارتفاعه على التحليل، فطريان العتق بعد ذلك لا يؤثر في رفع التحريم الواقع الممدود إلى حصول التحليل، وإذا انقضت عدة الأَمَة، وقع الحكم ببراءتها وخلوّها عن العدة، وأنها تحل للأزواج، فإذا عتقت، استحال ارتفاع الحل المحكوم به. وفي مسألتنا إذا أسلمت حرتان مع إسلام العبد، لم يصر العبد مستوفياً حقه، والمسلمتان ما تعيّنتا لزوجيته، بدليل أنه لو لم يخترهما حتى أسلمت البواقي، فله أن يختار اثنتين من البواقي، فلم يوجد إذاً في حال رقه إلا التمكن من اختيار اثنتين، والتمكن من التي لا تحل محل الثُّنيا. فهذا ما يخطر للفقيه في انفصال هذه المسألة عن نظائرها، وكان لا يبعد من طريق الاحتمال أن يقال: يتوقف إلى إسلام البواقي، ثم إن فرض عتقٌ في بقية العدة نلحقه بالأحرار، وهذا احتمال لا قائل به، ولا صائر إليه، والغرض بذكره التنبيه على طريق من طرق الاحتمال، وإلاَّ، فالحكم المبتوت به والمذهب المقطوع به ما ذكره الأصحاب. فصل: قال الشافعي: "ولو أسلم، وأسلم معه أربع، فقال: فسخت نكاحهن، سئل؛ فإن أراد طلاقاً، فهو ما أراد... إلى آخره". 8153- نجزت فصول العبد والإماء، وأحكام الرق، وطريان العتاقة، وأخذ الشافعي في ذكر أحكام باقية من نكاح المشركات تجري منه مجرى الأركان، وقد ذكرنا أن الرجل إذا أسلم وتحته نسوة، وليقع الفرض في الحر والحرائر لئلا نقع في مضايق أحكام الرق. فإذا أسلم وأسلمن وهن زائدات على الأربع، فالإسلام يدفع نكاح الزائدات على الإبهام، وتبقى في الزوجية أربعٌ مبهمات، والتعيين إلى الزوج، وهذا قد سبق تمهيده. فإن قيل: فما أصَّلتموه أنه لو اتصل بالإسلام مفسد، تضمن ذلك الحكمَ بفساد العقد، وعليه بنيتم بقاء بقية العدة وزمان الخيار، ومعلوم أن الجمع بقي إلى الإسلام، فهلا قضيتم بفساد العقود فيهن جُمع؛ من قِبل اتصال العقد بالإسلام؟ قلنا: هذا تلبيس؛ فانَّ العدة المقترنة بالنكاح تبقى مع الإسلام وبعده، فيقع الحكم على النحو الذي مهدناه، والجمع لا يجامع الإسلام؛ فإنَّ الرجل كما أسلم وتحته عشر أو أكثر، اندفع نكاح الزوائد بنفس الإسلام، فلم يجتمع مع الإسلام زائدٌ على العدد المحصور شرعاً. ولا نقول: يطرأ الإسلام ثم يفسخ العقد في الزوائد، بل يقع الإسلام مع الفسخ، ويضاد الإسلامُ نكاحَ الزوائد مضادةَ السواد البياضَ، فالضدان يتعاقبان، وليس بينهما تخلل زمان، كذلك القول في نكاح الزوائد مع الإسلام. ومما تقدم ذكره، أنه إذا أسلم على أكثر من أربع وأسلمن معه، أو في العدة، فيتعين اختيار أربع منهن، والزوجية ثابتة في أربع، ولا يحصل بالاختيار الزوجيةُ، وإنما يحصل به تعيين الزوجات المبهمات، ولو أراد الزوج أن يفارقهن من غير طلاق، لم يمكنه، جرياً على ما أوضحناه. 8154- ولو أسلم وأسلمت أربع، فقال: فسخت نكاحهن، لم نحكم بنفوذ الفسخ إذا أراد بذلك فراقاً من غير طلاق، فلو أصرَّت المتخلفات؛ فالذي عليه الجماهير: أن الفسخ الموجه على الأربع الأوائل لاغٍ مردود، ووجودُه كعدمه. وقد حكينا عن العراقيين وجهاً في وقف الفسخ الموجه على الأوائل، وتفريع ذلك يقتضي أن نقول: إذا كُنَّ ثمانياً، فأسلم أربع، ثم بعدهن أربع، وقد فسخ نكاح الأوائل، فنتبين الآن أن نكاح الأوائل ارتفع بما تقدم من الفسخ، وتعينت الأواخر للزوجية. ولو أسلمت الأوائل وهن أربع- في الصورة التي ذكرناها؛ فاختارهن، صح، واندفع نكاح المتخلفات، فإنْ أصررن، فاندفاع نكاحهن بإسلام الزوج، وإن أسلمن في العدة، فقد تبين أيضاًً اندفاع نكاحهن باختلاف الدين، ولكنا تبيّنّا تعيّنهن من وقت تعيينه الأوائل للزوجية. ولو طلّق الأربع الأوائل، نفذ، وكان توجيه الطلاق عليهن متضمناً اختيارهن؛ فإن الطلاق حَلٌّ، ومن ضرورته تقدير العقد في محلّه. ولو قال: الأوائلُ فسختُ نكاحهن، ثم زعم أنه أراد بذلك طلاقاً، قُبل قوله؛ فإنّ اللفظ يحتمله، والطلاق يقع بالصريح تارة وبالكناية أخرى. وإن زعم أنه أراد حلَّه بلا طلاق، فقد لاح أنَّ ذلك لا ينفذ في الحال، وإنما الكلام في صحة الوقف. وقد ذكرت اختلافاً ذكره العراقيون. 8155- ولو أسلم وتحته ثمان، ثم قال: من أسلم منهن، فقد اخترت نكاحها؛ فمن أسلم منهن لم تتعين للزوجية، ولم يصح الاختيار فيها؛ فإنَّ الاختيار لا يقبل التعليق؛ فإنه إن كان بمثابة ابتداء عقد من طريق التشبيه لم يقبل التعليق، وإن نزلناه منزلة الاستدامة، فالاختيار على حالٍ لفظٌ معتبر في الاستدراك، فلا أقل أن ننزله منزلة الرجعة، وهي لا تقبل التعليق أيضاًً، والذي يغني عما ذكرناه أن الاختيار تعيين، وذكره على التعليق إيراده على صيغة الإبهام، وهذا يناقض التعيين المأمور به. ولو قال: من أسلمت فقد فسخت نكاحها، وأراد تعييناً للفراق وحلاً بلا طلاق فمن أسلمت، لم تتعين للفراق لمعنيين: أحدهما: أنَّ التعيين للفراق أحد موجبي الاختيار، فينافيه التعليق، كما ذكرناه في الإجازة. والمعنى الثاني- أن التعيين للفراق قبل العدد التام غير مسوغّ، كما قدمناه. ولو قال: من أسلمت، فهي طالق، فمن أسلمت تُطلّق، ويتضمن وقوعُ الطلاق اختيارَها للزوجية أولاً، كما تقدم، و اختيار الزوجية، وإن كان لا يقبل التعليق مقصوداً، فقد تحصل ضمناً لما يقبل التعليق. والدليل عليه أن السيد لو أبرأ المكاتب عن نجوم الكتابة يعتق، والإبراء لا يقبل التعليق، ولو قال لمكاتبه: إن دخلت الدار، فأنت حر؛ فإذا دخل؛ عتَقَ وبرىء، فتحصل البراءة ضمناً، وإن كانت لا تُعلّق وحدها صريحاً. 8156- ولو قال: من أسلمت، فقد فسخت نكاحها، وزعم أنه أراد بذلك الطلاق، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن ذلك مقبول منه. ثم القول في الطلاق المصرح به ما ذكرناه. وحكى العراقيون وجهاً، أن تفسيره الفسخ بالطلاق مردود، وهذا لا وجه له. فإن تكلف متكلف وقال: الفسخ في نكاح المشركات صريح في الفراق الذي هو من خصائص الباب، وما كان صريحاً في موضوعه لا يجوز أن يُعدل به عن موضوعه بالنية، وهذا كما أن الطلاق لا يصير بالنية ظهاراً، والظهار بالنية لا يصير طلاقاً. وهذا بعيد؛ فإنَ الفسخ قبل الإسلام لا يقال له على صيغة التعليق، والطلاق ينفذ، فكان استعمال الفسخ في وقت لا يجد نفاذاً في موضوعه. 8157- ولو كُنَّ ثمانياً، فأسلمت واحدة، فقال: فسخت نكاحها، ثم هكذا: أسلمن بجملتهن واحدة واحدة، والتفريع على الأصح-وهو إلغاء الفسخ- ففسخه مردود في الأربع الأوائل، وهو نافذ في الأربع الأواخر، والسبب فيه أن فسخ الأربع الأواخر وقع وراء العدد الكامل، وهو الأربع، فكان نافذاً. وكذلك لو أسلمت أربع دفعة واحدة، ثم أسلمت أربع أخرى، فينفذ الفسخ في المتأخرات؛ فإنه وراء العدد الكامل- وهو الأربع؛ فينبني على هذا ما نريد الآن. فإذا أسلمن مترتبات واحدةً واحدةً، وهو كان يفسخ نكاح كل من تُسلم، فلا ينفذ الفسخ في الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وينفذ في الخامسة إلى الأخيرة، ثم إذا نفذ الفسخ في المتأخرات، تعنيت الأوائل للزوجية، إذ لابد من أربع. وإن فرّعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه العراقيون، فنقف الفسخَ في الأربع الأوائل، وننظر إلى ما يكون، فإن أسلمت الخامسة فقال: فسخت نكاحها، فنقدم على ذلك فرضَ الكلام في إسلام أربع جميعاً، وإسلامِ أربع بعدهن، والنسوة ثمان، وقد قال لما أسلمت الأوائل: فسخت نكاحهن، وقال لما أسلمت الأواخر: فسخت نكاحهن، فإن فرعنا على ظاهر المذهب؛ ففسخه الأُول لاغٍ، ولما فسخ نكاح الأربع المتأخرات حالة إسلامهن، نفذ الفسخ فيهن، وتعينت الأوائل للزوجية، وعلى قول الوقف لو فسخ نكاح الأوائل، وقفنا فسخه، وانتظرنا العاقبة، فلما أسلمت الأواخر معاً، ثبت نكاحهن كما أسلمن، وتبيّنّا نفوذ الفسخ في الأوائل. ولو فسخ نكاح الأواخر، لم ينفذ فسخه؛ فإنا نفذنا على وجه الوقف فسخَه في الأوائل، فاقتضى ذلك تعيين الأواخر للزوجية، وإذا تعيّنّ، بطل تقدير الفسخ فيهن إذا أسلمت أربع معاً، ثم أسلمت أربع. 8158- فأما إذا أسلمت أربع على الترتيب واحدة واحدة، وفرّعنا على الوقف، فالفسخ في الأربع المترتبات موقوف، فلما أسلمت الخامسة، فقد تمكّنّا من التنفيذ لفسخ نكاح واحدة من الأوائل، فإنَّ الإجازة والاختيار في الخمس لا وجه له، فننفذ فسخاً؛ ويتعين للتنفيذ الفسخُ في الأولى؛ فإنه أول فسخ صدر، فيتبين نفوذه بأول التمكن، ثم لما نفذنا الفسخ في الأولى يبطل الفسخ في الخامسة وتعيّنها للزوجية إذا كانت المسألة مفروضة في ثمان، ثم إذا أسلمت السادسة، نفذنا الفسخ في الثانية للقياس الذي ذكرناه في الخامسة والأولى، وإذا أسلمت السابعة، ففسخ نكاحها، نفذنا الفسخ في الثالثة، وأثبتنا زوجية السابعة، وإذا أسلمت الثامنة، ففسخ نكاحها، نفذنا الفسخ في الرابعة، وأثبتنا زوجية الثامنة، وصار إسلام الأربع الأواخر ترتيباً مع تقدير الفسخ فيهن مؤدياً إلى ما اقتضاه فسخ نكاح الأربع الأواخر جميعاً لو أسلمن معاً بعد تقدم الفسخ في الأوائل جميعاً لما أسلمن معاً. والمذهب إلغاء الفسخ في الأوائل، وإبطال مذهب الوقف، وليس يخفى التفريع عليه. 8159- ولو أسلمت أربع من الثمان، فآلى الزوج، لم يصر بالإيلاء مختاراً لهن، بخلاف ما لو طلقهن، والسبب فيه أن الإيلاء يمين على الامتناع عن الوطء، والحلف على الامتناع عن الوطء يلائم الأجنبية المعينة للفراق، وليس كالطلاق؛ فإن من ضرورته حَلٌّ بعد تقدير عقد، وكذلك لو أسلمت أربع، فظاهَرَ عنهن، لم يجعل الأصحاب الظهار تعييناً للزوجية؛ فإن معنى الظهار المبالغة في وصف المرأة بالتحريم، من حيث تشبيهها بالمحرمات، وهذا يلائم حال الأجنبية بخلاف الطلاق. هذا ما وجدته للأصحاب. 8160- ومما ذكروه واتفقوا عليه؛ أنه لو أسلم من النساء خمس أو ست، فقال الزوج المسلم: أوقعت الأربع المختارات فيهن؛ فالاختيار ينحصر فيهن، وتندفع الباقيات لو قدر إسلامهن. وقد يتطرق إلى هذا سؤال، وذلك بأن يقال: الاختيار تعيين، وحصره الزوجات في جمع من النسوة زائداتٍ على العدد المعتبر شرعاً لا تعيين فيه؟ وسبيل الجواب عنه: إن التعيين على معنى الحصر في هذا الجمع محقق كائن، وفيه تعيين الباقيات تعييناً للفراق، فصح ذلك. ولو أبهم رجل طلقة بين أربع نسوة، ثم أشار إلى اثنتين، وقال: من أردته بالطلاق فيهما، كان ذلك ضرباً من التعيين، وترتب عليه تعيين الأخريين للزوجية، وانحصار الطلاق في اللتين ذكرهما للطلاق إبهاماً، ثم يتعين عليه تعيين المطلقة منهما، كذلك القول في اختيار الأربع من الست اللواتي حصر المختارات فيهن، فنقول: عيِّن أربعاً منهن وفارق اثنتين. هذا ما ذكره الأئمة. 8161ـ ولم يتصل بأطراف الكلام أن الزوج إذا أسلم وتخلفت الزوجة، وطلقها وهي متخلفة، فلا شك أن الطلاق لا ينتجز في تخلفها، مع جواز أن تصرّ على شركها حتى تنقضي العدة؛ إذ لو اتفق ذلك، تبيّنا ارتفاع النكاح بنفس اختلاف الدين، وذلك سابق على تنجيز الطلاق. ولكن لو طلقها، ثم أسلمت، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في تنفيذ ذلك الطلاق تخريجاً على الوقف، وسبب ظهور الخلاف أن الطلاق أقبل للغرر من غيره. ولو كان تحته نسوة زائدات على العدد المحصور، فأشار إلى أربع منهن في الشرك، فقال: أجزت نكاحهن، فلا شك في بطلان اختياره إذا أبطلنا قول الوقف، فأما إذا فرعنا على قول الوقف، فهذا الاختيار فاسد أيضاًً؟ فإنها على ثبوتها لا يصح اختيارها، ومن أجاز وقف العقود، لم يجوّز بيع الخمر على تقدير المصير إلى حموضة الخل. وفي القلب من هذا أدنى شيء؛ من قِبل أنَّ الخمر ليست مملوكة ويثبت الملك مع تخللها غير مستند إلى حالة الشدة، وإذا أسلمت الوثنية، تبينا أنها كانت زوجة وهي وثنية، وهذا الإسناد محكوم به شرعاً، فيتطرق إمكان القول بالوقف على بُعدٍ في الإجازة. والعلم عند الله تعالى. فرع: 8162- إذا أسلمت نسوة زائدات مع إسلام الزوج، فقد ذكرنا أنه يختار أربعاً منهن، فلو وطىء، فهل يكون وطؤه اختياراً للزوجة؟ فيه وجهان ذكرهما العراقيون، وهما كالوجهين في أن الرجل إذا أبهم طلقة بين امرأتين ثم وطىء إحداهما أو أبهم إعتاقاً بين أمتين ثم وطىء إحداهما، فهل يكون الوطء تعييناً للملك والزوجية؛ حتى تتعين الأخرى للعتق وللطلاق؟ فعلى اختلاف مشهور، سيأتي مشروحاً في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل. فرع: 8163- ظاهر النصوص أن عدة المتعينات للفراق تحتسب من وقت تقدم الإسلام ممن تقدم به، وإن أحببنا قلنا: أول العدة يُحتسب من وقت اختلاف الدين، هذا مقتضى النصوص، وعليه أجرينا المسائل. وللشافعي نص في كتاب العدة "أن الرجل إذا نكح امرأة نكاحاً فاسداً، فكان يغشاها، فالعدة تحتسب من وقت التفريق بينهما، لا من آخر وطئه"، وفيه اختلاف وتفصيل سيأتي-إن شاء الله تعالى- في كتاب العدة، والغرض من ذلك أن معظم أئمتنا قالوا: ابتداء العدة محسوب من وقت اختلاف الدين، فإن فرّعنا على ابتداء عدة الشبهة من وقت التفريق بين الزوجين، والسبب فيه أن الزوج في النكاح الفاسد يخامر زوجته ويخالطها مخالطة الأزواج، وإن كان لا يغشاها، فيجوز ألا يقع الاعتداد بذلك الزمان من العدة، فالزوج لا يغشى المتخلفات في مسألتنا ولا يخالطهن مخالطة من يتسلط على الغشيان، فكان ذلك فرقاً بين المسألتين. ومن أصحابنا من قال: إذا حسبنا ابتداء عدة الشبهة من افتراق، فنحسب ابتداء العدة في المتخلفات من وقت التعيين للفراق، وكذلك القول فيه إذا أسلمن وتخلف، وهذا القائل يعتل، فيقول: إذا كان ظن الزوجية على الفساد يمنع الاحتساب بالعدة في النكاح الفاسد، فتقع الزوجية في المتخلفات أو في المسلمات تحت الزوج المتخلف أولى بأن تمنع الاحتساب من العدة. وحقيقة هذا سيأتي في كتاب العدة، إن شاء الله عز وجل. فصل: قال: "ولو أسلمن معه، فقال: لا أختار، حُبِسَ حتى يختار... إلى آخره". 8164- إذا أسلم وتحته أكثر من أربع أسلمن، فالزوج مأمور بأن يختار أربعاً منهن، والاختيار حتم عليه؛ فلا يجوز له أن يتركهن مبهمات؛ فإنه لو فعل ذلك، لكان حابسَهن على غير تعيين للفراق والزوجية. وكذلك القول فيه إذا أبهم طلاقاً من نسوة. ثم قال الشافعي: "إذا امتنع من التعيين، حبسته ليُعيّن، فإن امتنع مع الحبس يُعزر ويضرب حتى يختار". هذا كلام الشافعي. وفي هذا أدنى تأمل على الناظر. والحبس في وجوه من ثبت عليه دين نوعٌ من العقوبة، ونحن لا نحبس في الدَّين إلا بعد ثبوته، ولا تعويل على قول القائل: لسنا نقطع بصدق الشهود؛ فإنَّ البينة إذا قامت، أرقنا الدماء بها، وهجمنا على العظائم، ثم حكمنا بالظاهر، ووكلنا الأسرار إلى الرب تعالى، وليس الحبس بأعظم من القتل والرجم، ولكن إنما اختار ولاة المسلمين وقضاةُ الدِّين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبسَ لسرٍّ، وهو أنه عقوبة دائمة إلى الوفاء بالحق، ولا يتصور إدامةُ عقوبةٍ غيره. وفيه مع ما ذكرناه لطيفة أخرى، وهو الاستيثاق بمن عليه الحق؛ فاجتمع في الحبس هذان المطلبان. ثم ذكر الشافعي أن الرجل إذا امتنع من الاختيار، فرأى القاضي أن يعزره، عزّره، وهذا مضموم إلى الحبس، فلا اكتفاء بالتعزير، وإنما رأى الشافعي ذلك؛ لأنه ما لم يتطرق إلى الذي وجب عليه الاختيار إمكانُ عذر؛ فإن الأمر إلا إليه، فتركه للاختيار نكاح. فقال الأئمة: لو فرض مثل هذا في الحقوق المتوجهة، ورأى القاضي التعزير ضمّاً إلى الحبس، فله ذلك، وإنما يتصور هذا إذا أقر بالحق واعترف بقدرته على أدائه، وأخر مماطلةً، من غير أن يكون له وطر؛ فللقاضيَ أن يعزره، فأما إذا قامت البينة وهو رادٌّ ولكنا أوضحنا له: "أن القضاء نفذ عليه ولا يقبل منه تكذيبُ البينة"، فإن كان يدعي إعساراً، فلا سبيل إلى المزيد على الحبس، وإن اعترف باليسار؛ فالظاهر عندنا امتناع التعزير، وفي الحبس مقنع. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن للقاضي أن يعزره. ثم ما ذكرناه من التعزير ليس حتماً، بل هو إلى رأي الوالي، على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل. ثم إن كرر السلطان التعزير حيث يراه، فلا بأس، ويخلَّلُ بين التعزيرين زمانٌ يبرأ فيه عن التعزير الأول؛ فإن الموالاة في العقوبة عظيم. فإن قيل: هلا قلتم: إذا امتنع الزوج من التعيين، فللقاضي أن يعيّن عليه، كما يطلّق زوجة المُولي بعد المدة إذا امتنع عن الفيئة، على أحد القولين؟ قلنا: المرأة مطالِبة بحقها وهي مضرورة من جهة الزوج، فإنْ قطع الحاكم نكاحاً لإزالة الضرر، لم يبعد، وفي مسألتنا واحدة من النساء لا تتعين لطلب حقها، فلا سبيل إلى تفويض ذلك إلى القاضي. ثم قال الأصحاب: إذا امتنع الزوج-وتحته ثمان، وأسلم وأسلمن- عن اختيار أربع منهن، وحبسناه، فلا نعزره على الفور، فلعل أ له في التعيين فكراً، وأقرب معتبر في ذلك مُدَّة الاستتابة. 8165- ثم عليه أن ينفق على جميعهن ما دام ممتنعاً عن اختيار أربع، أجمع الأصحاب عليه، واعتلّوا بأنهن محبوسات بسببه، والزوج قادر على تخليصهن من الحبس، فإذا أدام حبسهن أُلزم نفقتهن. وهذا المقدار لا يستقل، والوجه أن نقول: إنما تجب النفقة لأن كل واحدة منهن تزعم أنها مستحِقة، والنفقة من حيث إنها كانت من قبلُ مستحقة، ولم يتحقق في حقها على الخصوص ما يوجب إسقاط النفقة؛ فهي على مطالبتها بحقها من النفقة إلى أن يتبين ما يسقطها. والذي يوضح ذلك: أنه لو لم تثبت لكل واحدة منهن نفقة، فلا سبيل إلى إسقاط نفقتهن بالكلية، ولو أوجبنا نفقة أربع نسوة، فلا يمكن تعيين المستحقة، ولا سبيل إلى وقف النفقة إلى البيان؛ فإنَّ النفقة أُثبتت شرعاً لحاجة ناجزة لا تقبل الوقف. ولو فُضّت النفقة التي ذكرناها عليهن من غير وقفٍ، لما وصلت واحدة منهن إلى نفقة تسد مسداً، فإذا تعذر الوقف، وتعذر إسقاط أصل النفقة، ولم يتجه الفضُّ والتعيين، فالرجوع إلى اعتبار كل واحدة في نفسها؛ نظراً والتفاتاً إلى الاستحقاق القديم، حتى كأنه لا طَلِبة إلا منها ولا مستحقة غيرها- أولى معتبرٍ وأحقُّ مرجوع إليه. ومما يعضد ذلك أن الجاريات في العدة بسبب اختلاف الدين ينزلن عند معظم الأصحاب منزلة الرجعيات في عدة الرجعة، على ما سنقرر ذلك في آخر الباب، إن شاء الله عز وجل. والرجعية تنزل منزلة الزوجة في استحقاق النفقة ما دامت في عدة الرجعة. فقد وضح ما ذكرناه من إيجاب النفقة على الزوج من كل وجه. 8166- ثم الكلام وراء ذلك يُفرض في موت الزوج قبل اتفاق التعيين والاختيار، فإذا اتفق ذلك، تعلق الكلام بفصلين: أحدهما: في العدة، والثاني: في الميراث. فأما القول في العدة، فليس يخفى أن الزوجة تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشراً، التي مات عنها زوجها، والتي تبيّن أنها بانت عن زوجها تعتد بالأقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، وتعتد بثلاثة أشهر إن كانت من ذوات الشهور. ونحن نعتبر في حق كل واحدة مسلك الاحتياط، ولا نحلّها للأزواج إلا على ثَبتٍ، وتعيُّنُ هذا المساق يقتضي لا محالة أن يُرعى في حق كل واحدة منهن أقصى الأجلين، فإن كانت العدة بالأشهر، لم يخف وجه الاحتياط، فإن الأربعة أشهر والعشر تشتمل على ثلاثة أشهر وتزيد، وإن كن حوامل؛ فإذا وضعت الحامل بعد الموت حملها، فقد حلت عن العدة، فإنها سواء فرضت زوجة، أو قدرت بائنة عن زوجها، فوضع الحمل يبرئها إذا وضعت بعد الموت. وإن كانت من ذوات الأقراء، فينبغي أن تأتي بثلاثة أقراء فيها أربعة أشهر وعشر. وإن أحببتَ قلتَ: تعتد بأربعة أشهر وعشر، وإن أحْببت قلت: تعتد بأربعة أشهر فيها ثلاثة أقراء، فأي الأجلين انقضى انتظرت الأجل الآخر، وهذا معنى أقصى الأجلين، واليقين يحصل بهذه الطريقة. ثم عدة الوفاة يعتبر ابتداؤها من وقت موت الزوج لا محالة. والبينونة، من أي وقت يعتبر ابتداؤها؟ فعلى وجهين، مهدناهما قبلُ: أحدهما: أنا نعتبر ابتداءها من أول الإسلام، إن كان الإسلام على الترتيب، ويعتبر في حق كل واحدة إسلامها وإسلام زوجها، ولا يخفى درك هذا على الفقيه، ولا يضر التعرض للجليات في أثناء الخفيات. والوجه الثاني- أنا نعتبر ابتداء عدة البينونة في حقوقهن من وقت موت الزوج، فإنهن من قبل ذاك في حال الزوجية والتباس الحال، فشابهن المنكوحة نكاح الشبهة والزوج كافر. ومن أسرار القول في العدة-وإن كان متّضحاً- أن وجوب العدة قد يحال على اختلاف الدين، كما تقدم، وذلك يستدعي ترتيباً في الإسلام، وتقديرَ سبقٍ من أحد الزوجين إليه، فإذا أسلم الزوج وأسلمن معاً، فالعدة تحال على دفع الإسلام نكاح الزوائد، فإنا أوضحنا أن الإسلام يتضمن انتفاء أنكحة تزيد على حد الشرع. ثم المختارات في الزوجية والمندفعات بحكم الزيادة يبنين على الوجه الظاهر من وقت الإسلام الواقع؛ فالعدة إذاً تحال مرة على اختلاف الدين، ومرة على الدفع. ثم الدفع قبل البيان على لَبْسٍ، كما أن تبين الارتفاع باختلاف الدين موقوف على ما يُبيِّن، فهذا حاصل الكلام في العدة. 8167- فأما القول في الميراث؛ فإذا مات الزوج وبقين فنفرز من تركته ميراثَ زوجة من غير مزيد، وهو ربعٌ أو ثمن، عائلٌ أو كامل. ثم الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن هذا القدر يوقف بينهن، فلنفرض ثمانياً، ونقول: ميراث الزوجة الواحدة موقوف بينهن؛ فإن اصطلحن، فذاك، وإن لم يصطلحن، استمر الوقف. ثم قال الأصحاب: لو جاءت واحدة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع يطلبن من الربع أو الثمن، فلا نجيبهن إلى شيء؛ من جهة أنا نجوّز أن تكون الزوجات من الباقيات اللاتي لم يطلبن شيئاًً من الموقوف، وقد صورنا تحته ثمانياً. ولو جاءت خمس يطلبن، فنسلم إليهن ربعَ الموقوف؛ فإنا نستيقن أن فيهن زوجة. فأقل ما يقدر لهن هذا. وقد قال الشافعي: لو كان فيهن طفلٌ، فليس لوليها أن يرضى لها-إذا طلبن الاصطلاح- بأقلَّ من ثُمن الموقوف، وعلل بأن قال: إذا وُقف بينهن وهن ثمان مقدارٌ، فيدُ كل واحدة منهن ثابتة على ثُمن الموقوف، فلا يقع الرضا بأقلَّ من ثُمن الموقوف على موافقة ثبوت الأيدي. ومما ذكره الأئمة؛ أن الخَمس إذا جئن يطلبن، فقد ذكرنا أنا لا نسلم إليهن إلا رُبع الموقوف في الصورة التي صورناها، فهل يشترط عليهن الإبراء عن الباقي؟ فعلى وجهين: أحدهما: وهو القياس الذي لا جريان لغيره، أنا لا نشترط ذلك؛ فإنهن لم يطلبن فوق حقهن، بل اقتصرن على المقدار المستيقن لهن، فيبعد كل البعد أن نكلفهن إسقاط حق يتوقع لهن، بل يجب أن يُجَبن إلى القدر المستيقن فحسب. والوجه الثاني- أنا لا ندفع إليهن شيئاًً، بل نديم الوقف إلا أن يسقطن حقوقهن من الباقي؛ فإنَّ سبب إجابتهن في مقدار من الموقوف لهن قطعُ خصومة عاجلاً وآجلاً، وهذا لا يحصل إلا بالإبراء، وهذا وجه لا اتجاه له عندنا. ويتعلّق بتمام البيان في ذلك أنهن إن كن يطلبن أن يقتسمن الربع المسلّم إليهن، فذاك، وإن كن على أن يقفن ذلك الربع بينهن، فهذا خلي عن الفائدة؛ فإن الوقف كائن قبل ذلك، ولكن إذا أردن هذا، فغرضهن الاختصاص باليد. ويتفرع عليه أن الخَمس إذا أخذن رُبع الموقوف، فثلاثة أرباعه تبقى تحت أيدي ثلاث نسوة، فإن أسقطت الخَمسُ حقوقهن من الباقي، فتختص به الثلاث الباقيات، وهذا خيال في التفريع لا حاصل له، فإنا إذا اشترطنا في إجابتهن أن يسقطن حقوقهن من الزائد على الرُبع المسلم إليهن، وهن أيضاًً يقفن الربع ولا يقتسمنه، فما استفدن شيئاًً، إلا أن الربع موقوف بين خَمس- يدُ كل واحدة منهن ثابتة على خُمس الرُبع، وهو يقع سهماً من عشرين سهماً من جميع الحصة الموقوفة لهن، وقد كانت يد كل واحدة قبل هذا الاستدعاء ثابتة على سهم من ثمانية أسهم من جملة الحصة. وإذا وضح ذلك، فليس لاستدعائهن مقصود مطلوب إلا أنهن يملكن الاستبداد بأنفسهن من غير مراجعة الباقيات إذا تراضين بالاقتسام، فَتُبْنى إجابتهن إلى ما يطلبن على ملكهن الانفراد بأنفسهن من غير مراجعة إلى الباقيات. وإن قلنا: لا يشترط على الخَمس الطالبات من الثمان إسقاط حقوقهن من الباقي، فيظهر الغرض بأنهن ملكن الانفراد بالتصرف في الربع المسلم به، وحقوقهن بعد حط الربع لهن قائمة في الباقي الموقوف. ولو زدن على الثمان وكن تسعاً مثلاً، فجاءت خَمسٌ وطلبن أن نقدر لهن شيئاًً، لم نجبهن؛ فإنا نجوز أن يكن الأربع الباقيات هن الزوجات. ولو كنَّ ستاً، فجاءت أربع منهن يطلبن، فنسلم إليهن نصفَ الموقوف؛ فإنا نعلم أن في الأربع زوجتان، ولو جاءت ثلاث يطلبن، فنسلم إليهن ربع الموقوف، فإنا نعلم أن في الثلاث زوجة، وإنما نأخذ هذا الاعتبار من عدد اللواتي لا يطلبن أن يخصصن بشيء، وليس يخفى مُدرك الغرض في ذلك على من له فكر. 8168-ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن الزوج إذا كان تحته أربع وثنيات وأربع كتابيات، فأسلمت الوثنيات معه، واستقرت الكتابيات؛ فالنكاح متردد بينهن، من جهة أن المسلم يقرر على نكاح الكتابية، فإذا مات، ولم يختر منهن أربعاً، فلا نقف لهن شيئاًً؛ فإنا نقف المقدار المستيقن، ونحن نجوّز أن تكون الزوجاتُ الكتابيات؛ إذ لو اختارهن في حياته، لجاز له ذلك. ثم لا ميراث للكتابيات، فإذا أمكن تقرير هذا، فقد زال تحققُ الاستحقاق وثبوتُه على قطع، وهذا سديد على مذهب الشافعي في اعتبار اليقين في المواريث عند وقوع اللبس. وقد ألحق الأئمة بهذه الصورة، أن الرجل لو نكح مسلمة وكتابية ثم قال: "واحدة منكما طالقة ثلاثاً"، ومات قبل البيان، ولم نُقم بيانَ الورثة مقام بيانه، فلا نقف لهما شيئاًً، للعلة التي ذكرناها؛ فإنه كان يجوز أن يعيّن المسلمة للفراق، ثم لا ترث الكتابية لو فعل ذلك ومات. وذكر صاحب التقريب هذه المسألة، وأجاب فيها بجواب الأصحاب، وحكى وجهاً آخر، أنَّا نقف ميراث زوجة بين المسلمة والورثة إذا وقع بينهما الطلاق المبهم، وطلب أن يفصل بين هذه المسألة وبين المسألة التي ذكرناها في نكاح المشركات من فرض أربع وثنيات يسلمن وأربع كتابيات يصررن على الكفر، ولم يأت بما يقبل الحكاية، ولا يتوقع الفقيه في ذلك فرقاً ممكناً أصلاً. فهذا ما ذكره جماهير الأصحاب في الميراث طردناه على وجهه. 8169- وذكر صاحب التقريب طريقةً عن ابن سريج وعدَّها خارجة عن قياس الأصحاب. ولا يستقر على المسلك الحق عندنا غيرُها، وذكر أنه حكي عنه أنه قال: إذا لم يختر المسلم الزوجات، ومات قبل اتفاق ذلك، واتفقت النسوة على صورة الحال، ولم يختلفن، ولم تدّع واحدةٌ منهن كونها مختارة، بل اعترفن بصورة الحال، فالربع أو الثمن مفضوض عليهن بالسوية؛ فإنَّ التوقع في البيان منقطع، وكل واحدة منهن في سبب الاستحقاق بمثابة صاحباتها، وليس ذلك لبساً يُنتظر زواله. والذي يكشف الغطاء في ذلك: أن محل اللبس ينتظم أن يقال فيه: ما هو مشكل علينا معلوم لله تعالى، فهذا التقدير لا يمكن إجراؤه في هذه المسألة؛ إذ لا وجه في البيان، فيفرض معلوماً لله تعالى. ولو قال: إن كان هذا الطائر غراباً، فأنت طالق، وقال لزوجته زينب: إن لم يكن غراباً، فأنت طالق، فتطلق إحداهما. فإن أشكل الطائر، وأشكل تسميةُ الطالق منهما، فهذا الإشكال يختص بنا، والرب تعالى عليم بالطالق، ومثل ذلك لا يتأتى تقديره في المسلمات الزائدات على العدد الشرعي إذا مات الزوج قبل اختيار الزوجات منهن، فلا وجه إلا التسوية بينهن قسمةً وتوزيعاً. وهذا حسن منقاس، وإن كان مخالفاً لما عليه جماهير الأصحاب، وهذا يخالف ميراث الخناثى، فإنا لا نأيس بياناً فيهم، والبيان غير متوقع في المسألة التي ذكرناها، ولابد من صرف الميراث إليهن، فلا معنى للتوقف إذاً والحالة هذه. وقد نجز الغرض من هذا الفصل. فصل: قال: "وإن أسلم وعنده وثنية، ثم تزوج أختها... إلى آخره". 8170- إذا كان نكح في الشرك وثنية، ثم أسلم وتخلفت الوثنية، وذلك بعد الدخول، فقد بان أنا ننتظر إسلامها في مدة العدة، فلو نكح بعد الإسلام أختها المسلمة، فلا شك أن المتخلفة لو أسلمت في العدة، فنكاح الأخت مردود، فإنا عرفنا أن المسلم بعد التزام الأحكام أدخل نكاح أخت على أخت. ولو نكح أختها كما فرضنا، ثم أصرت المتخلفة حتى انقضت العدة؛ فقد بان أن نكاح أختها وقع بعد بينونة المتخلفة. فالذي نقله المزني عن الشافعي أن النكاح مردود، واختار لنفسه صحة النكاح. وعلل الأصحاب فساد النكاح بما اقترن به مما يقتضي الوقف، والنكاح لا يقبل الوقف، وهذا أجراه الأصحاب على منع وقف العقود، وقد ذكرنا للشافعي قولاً في وقف العقود في كتاب البيع، وأوضحنا فيه مراتب الوقف، وطرق المذهب في كل مرتبة، فهذا نكاح جرى في وقتٍ كان لا يمكن أن نقطع فيه بانعقاد النكاح. فلم ير الشافعي-فيما نقله المزني- تصحيح النكاح. 8171- وهذا الفصل فيه سر؛ فإن الوقف الذي اتفق الأصحاب على إجراء القولين فيه مصور فيما إذا زوّج الرجل جارية أبيه في غيبته مثلاً، بناء على تزويج ملكه بغير إذنه، ثم بان أن أباه كان قد مات في وقت التزويج، وأنها كانت مملوكة للمزوّج في الوقت، فهذا في انعقاده قولان عند كافة الأصحاب. فإذا وضح ذلك، رجع الكلام إلى نكاح الأخت وأختُها متخلفة، وقد اختلف الأصحاب في ذلك، فذهب جمهورهم إلى إفساد النكاح، وإن تخلفت الوثنية إلى انقضاء العدة. وأجرى بعضهم القولين كما ذكرناه في الصورة المتقدمة، فأما إجراء القولين؛ فقياسه أنا نتبين آخراً أن الأخت تزوجها المسلم، والوثنية بائنة في تلك الحالة. ومن رأى القطع أظهر فرقاً بين هذه المسألة وبين مسألة الميراث، وقال: إذا زوّج جارية أبيه في غيبته، ثم بان أنها كانت ملكاً له بالميراث، وأن أباه كان قد مات؛ فالسبب المجوِّز للنكاح كائن في الحال، ولكنه لم يعلمه المزوّج، وأما إصرار المتخلفة إلى انقضاء العدة فليس أمراً واقعاً حالة العقد، ولكنه متعلق بما يكون في الاستقبال، وهو غيب لا مطّلع عليه، ولا يعلمه إلا الله عز وجل، فهذا وجه الفرق. ومما يتضح به الفرق عند الفارقين أن من الأئمة من جعل المتخلفة بمثابة الرجعية في العدة، ونكاح الأخت في عدة الأخت الرجعية غير سائغ، والمزني لما اختار صحة النكاح بناء على ما تبين في المآل استدلّ بالطلاق، وقال: إذا تخلفت الوثنية وطلقها زوجها المسلم، فلو أصرت حتى انقضت عدتها، فقد تبين أن الطلاق لم يصادفها؛ فإنها بانت بإسلام الزوج، ولو أسلمت في العدة، لحقها الطلاق، وهذا مما تردد الأئمة فيه، فذهب الأكثرون إلى وقوع الطلاق، وهو الذي لا يسوغ غيره؛ فإن الطلاق يقبل التعليق بالغرر، ومنتهى ما يحذر في الوقف تقدير التعليق، والنكاح وما في معناه من العقود لا يقبل التعليق، فلم ينعقد على تقديره، والطلاق إذا كان يقبل صريح التعليق، فيقبل تقديره على حكم الوقف، ومن أصحابنا من أجرى في الطلاق حيث ذكرنا قولَ الوقف. وعلى هذا النحو اختلف الأصحاب فيه إذا أعتق الرجل عبداً لأبيه، ثم بان أنه كان مِلْكَ الابن بالميراث؛ فالذي ذهب إليه المحققون: الحكم بنفوذ العتق قطعاً، ومنهم من رأى تخريج ذلك على قول الوقف، وقد أشرت إلى هذا الاختلاف من طلاق المتخلفة. والذي أراه إبطال مذهب من يصير إلى تخريج خلاف في الطلاق لما ذكرناه الآن. والفقيه من يميز عثرات الأئمة عما يعد من أصل المذهب. 8172- ومما يتعلق بمضمون الفصل أن المرأة لو أسلمت وتخلف الزوج، ونكح أختها في الشرك، وكانوا يرون نكاح الأخت على الأخت، فلو جرى ذلك في الشرك وقد أسلمت الأخت التي كانت زوجته قديماً، ثم أسلم الزوج بعد ما تزوج الأخت، فقد قال الأئمة: نجعل ما جرى بمثابة ما لو نكح في الشرك أختين، ثم أسلم عليهما وأسلمتا، فإنا نخيره بينهما، وهذا مفروض إذا أسلمت الأخت التي تزوجها حديثاً، فالحكم أن يتخير. فإن اختار القديمة، تبين اندفاع الجديدة بعد الحكم بثبوت نكاحها، على الرأي الظاهر في ثبوت أنكحة الشرك، وإن اختار الجديدة، اندفع نكاح القديمة، هذا ما ذكره الأصحاب. وفي ذلك أدنى مراجعة؛ فإنه لو كان نكح في الشرك أختين ثم أسلم وأسلمتا، فاختار إحداهما، فقد استمر النكاح عليهما في الشرك، ثم اتصل النكاح فيهما بالإسلام، وفي هذه المسألة جرى نكاح إحداهما بعد إسلام الأخرى، ولكن لا يختلف الحكم بهذا الاختلاف؛ فإن اندفاع نكاح إحدى الأختين إنما يحصل ويتبين عند الاجتماع في الإسلام، فإذا أسلم في العدة وهما مسلمتان، جرى الأمر في اختيار إحداهما على القياس المعلوم. فإن اختار الجديدة، بان اندفاع نكاح القديمة من وقت إسلامها، فإن اختار القديمة، بان اندفاع نكاح الحديثة، إما من وقت إسلامهما إن أسلما معاً، أو من وقت إسلام من تقدم بالإسلام منهما إن ترتبا في الإسلام؛ وهذا خارج عن الأصول الممهدة؛ فإنهما إن أسلما معاً، فلا اختلاف بينهما، وسبيل اندفاع الجديدة بدفع الإسلام نكاحها عند اجتماع الأختين في الإسلام، فيتأرخ اندفاع نكاحها بوقت الاجتماع في الإسلام لا بوقت الاختيار؛ فإن الاختيار بيان وليس بقطع. وإن أسلم الزوج مثلاً أولاً ثم أسلمت الجديدة من بعد، فاختار القديمة، فهو كما لو نكح أختين في الشرك فأسلم الزوج وأسلمت واحدة فاختارهما، فنكاح المتخلفة يتأرخ زواله بوقت اختلاف الدين لا محالة. وقد نجز مقصود نكاح المشركات أصلاً وتفريعاً، ولم يبق منه إلا الكلام في المهر، وما يفرض من اختلافٍ بين الزوجين في التقدم والتأخر، وادعاء الاجتماع في الإسلام على ما تقتضيه أغراض المختلفين، ونحن نعقد في كل غرض من هذه الأغراض فصلاً. فصل: قال: "ولو أسلمت قبله ثم أسلم في العدة... إلى آخره". 8173- إذا أسلم أحد الزوجين بعد المسيس قبل الثاني، فلا يخلو إما أن تسلم هي أو يسلم هو، فإن أسلمت هي أولاً، وتخلف الزوج، نُظر: فإن جمعها الإسلام قبل انقضاء العدة، استحقت النفقة لما مضى من الزمان بعد إسلامها. وإن أصر الزوج على تخلفه حتى انقضت العدة، فقد تبيَّنا انبتات النكاح بينهما، وهل تستحق النفقة لما مضى، يعني لأمد العدة؟ قال الأئمة: الصحيح أنها تستحق، لأنها بالإسلام أدت فرضاً عليها، والنفقة لا تسقط بأداء فرض. وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر: أنها لا تستحق النفقة من وقت اختلاف الدين، وعلل بأن قال: هي التي أحدثت سبباً منعت به الاستمتاع، ثم تمادى الأمر إلى تبين الانبتات. هذا ما ذكره المعتبرون. وذكر بعض الأصحاب فيه-إذا أسلمت أولاً ثم الزوج في العدة- وجهاً أنها لا تستحق النفقة لما مضى في زمان الاختلاف، وإن استقر النكاح بينهما في الاجتماع في الإسلام؛ لأنها بإسلامها-وإن أحسنت- تسببت إلى منع نفسها من الزوج وسد طريق الاستمتاع. فهذا نقل ما قيل. 8174- والذي أراه: أنها إذا أسلمت، وتخلف الزوج إلى انقضاء العدة، فإيجاب النفقة لمدة العدة بعيد عن القياس، وإن صحح الأصحاب إيجابها وعدّوا الوجه الآخر ضعيفاً؛ وذلك أنا نتبين أنها كانت بائنة، والبائنة لا تستحق النفقة إذا كانت حائلاً. وهذا لا ينقدح عنه جواب القاضي، بأن الخلاف في النفقة ينبني على تردد الأصحاب في أن سبيل الجارية في عدة اختلاف الدين سبيل الرجعيات أو سبيل البائنات، وهذا مما ظهر فيه اختلاف الأصحاب: فمنهم من قال: هي كالرجعيات؛ من جهة أن الزوج يتمكن من إثبات النكاح بنفسه بأن يسلم، وتمكُّنه من ذلك بمثابة تمكُّن الزوج من رجعة المطلقة الرجعية. ومن أصحابنا من قال: المرأة بمثابة البائنة. وهذا التردد غير صادر عن ثبت وتحقُّقٍ؛ من جهة أن الكلام مفروض فيه إذا انقضت العدة من غير اجتماع في الإسلام، وإذا جرى الأمر كذلك؛ فالتردد في البينونة غير معقول، والدليل عليه أنه لو طلقها الزوج وقد أسلم وهي المتخلفة، فالطلاق لا يلحقها إذا أصرت، والطلاق يلحق الرجعية، فلا متعلق لمن يقول: عدتها بمثابة عدة الرجعية، إلا ما أشرنا إليه من تمكن الزوج من إثبات النكاح بالإسلام، وهذا لا حاصل له؛ فإن الإسلام ليس تصرفاً في النكاح حتى يُستشهد به على صفة العدة، وإنما حالٌ يجري، ثم يُبتنى عليه حكمٌ في النكاح، وهذا بمثابة قول الفقهاء: المرأة لا تقدر على رفع النكاح من غير ضرار مخصوص تدفعه بالفسخ، ونتصور منها أن ترتد ولا يكون هذا تمكناً منها من فسخ النكاح. ثم الذي يقتضيه التوجيه الذي ذكره الأصحاب: الفرق بين أن تكون هي المتخلفة وبين أن يكون هو المتخلف، فإنَّ الزوج إذا تخلف وسبقت بالإسلام، فهو متمكن من إثبات النكاح بالإسلام، فهذا يضاهي الرجعة، والزوج المتخلف بمثابة المطلِّق المرتجع من حيث يتمكن من الإسلام تمكن الزوج من الرجعة، فإذا كانت هي المتخلفة والزوج مسلم؛ فليس يتعلق إثبات النكاح باختيار الزوج؛ فإن الأمر معلق بإسلامها وتخلفها، وهذا يوضح أن التعويل على الإسلام في المعنى الذي ذكرناه غير مستقيم؛ فإن البائنة والرجعية لا اختيار لهما في الاستبداد بالرجوع إلى النكاح، والمتخلفة متمكنة من الإسلام، وهو سبب ثبات النكاح. ولو جرى في مدة العدة، فالذي لا يتجه عندنا غيره: أن العدة إذا انقضت في تخلف الزوج، فلا نفقة لها، وذكر الأئمة أن الأصح وجوب النفقة، وعليه تدل النصوص، وهذا إذا سبقت بالإسلام وتخلف الزوج ثم أسلم في العدة أو أصر. 8175- فأما إذا أسلم الزوج وتخلفت المرأة؛ فالذي ذكره الأئمة: أنا ننظر: فإن لم يجمعهما الإسلام قبل انقضاء العدة، فلا نفقة لها لما مضى؛ فإنها المتسببة في تخلفها، فكانت كالناشزة على زوجها، انضم إلى ذلك أنا تبيّنا حصول البينونة مستندة إلى وقت اختلاف الدين. وإن تخلفت وأسلم الزوج، ثم إنها أسلمت في العدة واستمر النكاح، فهل تستحق النفقة لمدة تخلفها؟ المنصوص عليه في الجديد: أنه لا نفقة لها لتلك المدة، لأنها بالتخلف ممتنعة عن زوجها متسببة بامتناعها فكانت كالناشزة، ونص في القديم على أن لها النفقة لما مضى من الزمان إذا أسلمت في العدة؛ لأن النكاح استقر آخراً، وهي لم تُحدث أمراً، وإنما الزوج هو الذي أحدث سبب امتناع الاستمتاع، وإذا هي أسلمت فلا، يبعد أن نحمل تخلّفها على التفكر في قبول الدين. ولا خلاف أن الزوج إذا أسلم وتخلفت، وكان ذلك قبل المسيس يشطر المهر، وهذا دال على إحالة الفراق على إسلام الزوج، فلا يبعد إحالة امتناع الاستمتاع على إسلامه، وناصرُ القول الجديد ينفصل عن المهر، ويقول: المهر في مقابلة العقد، وقد مضى على الصحة، وتعلقت الفرقة بسبب صدر عن اختيار الزوج، واستقرار النفقة في مقابلة التمكين، وهي بتخلفها مانعة من التمكين، فكانت كما لو سافر الزوج، فامتنعت من الخروج معه. هذا تفصيل القول في النفقة. 8176- ثم الذي نراه أن نذكر ما يتعلق بالنفقة من اختلاف الزوجين، ثم نذكر على إثر فصل المهر ما يتعلق بالمهر من اختلافهما، فنقول- هاهنا تفريعاً على الجديد في الصورة الجديدة: إذا أسلم الزوج أولاً وتخلفت المرأة، ثم أسلمت في العدة، والتفريع على أنها لا تستحق نفقة زمان التخلف، فإذا قال الزوج: أسلمتِ بعد إسلامي بخمسين يوماً، وقالت المرأة: بل أسلمتُ بعدك بثلاثين يوماً، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤها على الكفر، ودوام سقوط النفقة، وكانت كما لو أقرت بالنشوز، ثم ادعت أنها عادت إلى الطاعة منذ شهر، وقال الزوج: بل منذ عشرة أيام، فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النشوز. ولو اختلف الزوجان في أصل السبق، فقال الزوج: أسلمت أنا قبل إسلامك، فسقطت نفقتُكِ بالتخلف، وقالت المرأة: لا بل أنا أسلمت قبلك، فالقول قولها؛ لأن الأصل وجوب النفقة وكفر الزوج، فصار هذا كما لو اختلف الزوجان في أصل النشوز، فادعى الزوج نشوز امرأته، وأنكرت المرأة، فالقول قولها. وحكى العراقيون وجهاً آخر وهو أنَّ القول قول الزوج؛ فإنه ادعى إصرارها على الشرك، والأصل بقاء الشرك، وهذا وجه بعيد، لم يعرفه المراوزة. وقد نجز الكلام في النفقة، وما ذكرناه منفصل عن النفقة التي تكلمنا فيها إذا أسلمن وأسلم-وعددهن زائد على العدد الشرعي- وامتنع الزوج من الاختيار، فتلك النفقة وجبت بسبب حبس الزوج إياهن مع قدرته على إزالة اللبس، فإذا ضممنا تلك النفقة إلى ما ذكرناه في هذا الفصل، انتظم من المجموع تمام القول في النفقة. فصل: قال: "ولو أسلم قبل الدخول، فلها نصف المهر... إلى آخره". 8177- إذا أسلم أحد الزوجين فلا يخلو: إما أن يكون قبل الدخول، وإما أن يكون بعده، فإن كان بعد الدخول، فلها المهر المسمى إنْ كانت التسمية صحيحة؛ فإن النكاح قد تأبد وتقرر بالمسيس، وكذلك لو ارتدت أو أرضعت رضاعاً يوجب فساد العقد بعد الدخول؛ فالمهر المسمى باقٍ مستقر، وسنعقد في باب الغرور-إن شاء الله عز وجل- وعيوب النكاح فصلاً جامعاً فيما يتضمن سقوط المسمى قبل المسيس أو يوجب تشطره، وفي الحكم بعد المسيس، والقدرُ الذي ننجزه هاهنا أن النكاح ارتفع باختلاف الدين والإصرار بعد المسيس، فالمسمى الصحيح ثابت بكماله. وإن كان اختلاف الدين قبل المسيس، نُظر: فإن أسلمت المرأة، سقط مهرها وإن أحسنت بإسلامها؛ لأن الفسخ ترتب على سبب من جهتها. ولو أسلم الزوج قبل المسيس، فيتشطر المهر؛ لأن الفراق متعلق باختيار الزوج، وليس هذا كما لو فسخ الزوج النكاح بعيب المرأة، فإن جميع المسمى يسقط وإن كان الفسخ صادراً من جهته. ولو صدر الفسخ من جهتها بعيب فيه، سقط المسمى أيضاًً، فلم نفرق بين أن تكون هي الفاسخة وبين أن يكون هو الفاسخ، وفي الإسلام فرقنا بين إسلامها وإسلامه قبل المسيس، وكذلك نفرق بين ردته وردتها، فيسقط المهر إذا ارتدت قبل المسيس، ونوجب تشطره إذا ارتد الزوج قبل المسيس. فهذا ما أردناه الآن. والفرق على الجملة بين الفسخ بالعيب وبين ما نحن فيه، أن الزوج إذا فسخ، فسبب فسخه أنه استحق سلامتها عن العيوب، فإذا صادفها معيبة، انعكس استحقاق الفسخ على أصل العقد، واختلافُ الدين طارىء على العقد، لا استناد له إلى ما تقدم. وما ذكرناه من ثبوت المسمى فيه إذا كانت التسمية صحيحة، فلو ذكر في الشرك صداقاً فاسداً؛ فالرجوع إلى مهر المثل بكماله بعد المسيس، وإن كان قبل المسيس، فالرجوع إلى نصف مهر المثل، فهذا بيان حكم المهر. 8178- ثم نذكر الآن-وفاءً بالموعود- في اختلاف الزوجين، وإذا اختلفا في تاريخ الإسلام، فلا يخلو إما أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول، ففيه أربع مسائل: إحداها- أن يقول الزوج للمرأة: أسلمتِ قبلي، ويسقط مهرك، وقالت المرأة: بل أنت أسلمت قبلي فلي نصف المهر، قال الأصحاب: القول قولها، وعليه نصف المهر؛ لأن الأصل بقاء مهرها، والزوج يدعي سقوطه. والمسألة الثانية- أن يقول الزوج: أسلمتِ قبلي وسقط مهرك، وتقول المرأة: لا أدري، أسلمتُ قبلك أو بعدك، فلا يقضى لها بشيء في الحال؛ لأنها ليست تدعي شيئاًً عليه. والمسألة الثالثة- أن يقول الزوج: أسلمنا معاً، وغرضه بهذا استمرار النكاح بينهما، وقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل صاحبه، فلا نكاح بيننا، ففي المسألة قولان: أحدهما: إن القول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي انقطاعه، والقول الثاني- إن القول قولها؛ فإن ما ادعاه الزوج من وقوع الإسلامَيْن معاً بعيد في الوقوع وفاقاً، فلم يُصدَّق في أمر يبعد وقوعه. وقد قال الأئمة: القولان في هذه المسألة خارجان على اختلاف الأصحاب في حد المدّعي والمدّعى عليه، وفيه خلاف سيأتي مبيناً في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل، فمن أصحابنا من قال: المدعى عليه من ينكر أمراً ظاهراً جلياً، والمدعي من ينكر أمراً خفياً، فعلى هذا القول قولها؛ لأن الظاهر معها. ومن أصحابنا من قال: المدعى عليه من إذا سكت لم يُترك وسكوته، فعلى هذا، القول قول الزوج. والمسألة الرابعة- أن يقول الزوج: أسلمتِ قبل إسلامي، فلا مهر لك، وهي تقول: لا، بل أسلمنا معاً ومهري بحاله، فنقول: النكاح بقول الزوج مفسوخ لا محالة؛ فانه مؤاخذ بموجب نفسه فيما يتعلق بزوال النكاح؛ فإنه المستحق للاستمتاع، وفي وجوب المهر لها جوابان: أحدهما: إنها تستحق نصف المهر؛ لأن الأصل بقاء مهرها، والزوج يدعي سقوطه. والقول الثاني- إن القول قول الزوج؛ لأن المرأة ادعت أمراً بعيداً في العادة نادر الوقوع، وهو وقوع الإسلامين معاً. وقد ذكرنا أنها لو ادعت تقدم إسلامه لينتصف مهرها، والزوج ادعى تقدم إسلامها ليسقط مهرها، فالقول قولها، وإنما اختلف القول فيه إذا ادعت وقوع الإسلامين معاً بسبب ادعائها اجتماعَ الإسلامين، ووقوعَ هذه الحالة النادرة في العادة كما ذكرنا، وكل ذلك والنزاع بينهما قبل المسيس. ومما أجريناه في أثناء الكلام وقوع الإسلامين معاً، ولم نعن بذلك أن يبتديا كلمتي الإسلام معاً، وإنما عنينا وقوع انتهاء الكلمة منهما معاً، هذا هو الاجتماع. ولا يضر أن يتقدم أحدهما بصدر الكلمة إذا كان الفراغ من آخر حرف منهما معاً، وسنذكر أصل ذلك في مسائل الطلاق، إن شاء الله عز وجل. 8179- فأما إذا كان الاختلاف بعد الدخول، فلا يظهر أثره في المهر، فإن المهر واجب بكماله بعد الدخول، وإنما يظهر أثر الاختلاف في النكاح وبقائه وارتفاعه: فإذا قال الزوج: أسلمتُ قبل انقضاء عدتك، فالنكاح قائم بيننا، وقالت المرأة: لا بل أسلمتَ بعد انقضاء العدة، فالنكاح منفسخ، فقد ذكر المراوزة: فيه مسائل: إحداها- أن يتفقا على وقت انقضاء العدة، ويختلفا في وقت الإسلام، والأخرى- نقيضها، والمسألة الثالثة- ألا يتعرضا لتاريخ الإسلام ولا لتاريخ انقضاء العدة، بل يُطلِقا، وهذا الاختلاف في هذه المسائل الثلاث يجري في دعوى الرجعة وانقضاء العدة جريانه هاهنا، وقد اضطربت الطرق في ذلك اضطراباً بيّناً، فرأيت تأخير ذلك إلى كتاب الرجعة، وسأستقصي-إن شاء الله عز وجل- فيه الطرق، وأبين المختار الحق ثَمَّ. وقد انتجز الباب والحمد لله رب العالمين. ثم عقد الشافعي باباً مشتملاً على مناظرة له مع محمد في إمساك الأواخر، وليس من شرط هذا المجموع ذكره.
|